لم تعرف جمهورية إفريقيا الوسطى استقرارًا سياسيًا أو انتقالاً سلسًا للسلطة منذ أطلقت الجمعية الوطنية الفرنسية اسم هذه الدولة رسميًا في سبتمبر 1958، وذلك منذ تم تقسيم إقليم إفريقيا الوسطى بين بلجيكاوفرنسا انطلاقا من ضفتي نهر أوبانجي بعد احتلالها في عام 1885. ففي الأول من ديسمبر من العام نفسه أعلنت الجمعية الوطنية الفرنسية ميلاد إفريقيا الوسطى جمهوريةً مستقلة، وتم تعيين "بوجاندا" رئيسًا للحكومة، واستمر في منصبه حتى لقى حتفه في حادث طائرة في 29 مارس 1959، ليحل محله في رئاسة الحكومة ابن عمه، ديفيد داكو، الذي أصبح أول رئيس لإفريقيا الوسطى بعد حصولها على الاستقلال الكامل في 13 أغسطس 1960. وفي الأول من يناير 1966 عرفت إفريقيا الوسطى أول انقلاب عسكري، إذ أصبح الجنرال، جون بيديل بوكاسا، رئيسًا للبلاد إثر انقلاب غير دموي نفذه ضد الرئيس ديفيد داكو، وألغى بوكاسا دستور 1959، وحل الجمعية الوطنية، وأصدر مرسومًا جمهوريًا منحه كافة السلطات التشريعية والتنفيذية في البلاد. وفي 24 ديسمبر 1976 أعلن بوكاسا تغيير اسم جمهورية إفريقيا الوسطى إلى "إمبراطورية إفريقيا الوسطى"، وأصدر دستورًا إمبراطوريًا، وأطلق على نفسه اسم "الإمبراطور بوكاسا الأول"، وارتكب نظامه العديد من الجرائم والفظائع الإنسانية، منها اتهامه من قبل لجنة قضائية إفريقية بالمشاركة في مذبحة لنحو 100 تلميذٍ رفضوا ارتداء الزي المدرسي الإلزامي، بل إنه قد حُكِم على ستة من أنصاره، بينهم أولاد عمومته، بالإعدام في عام 1981 لارتكاب هذه المجزرة. أما الانقلاب الثاني، فقد أعاد "ديفيد داكو" للحكم مجددًا في 20 ديسمبر 1979 بدعم فرنسي، وذلك أثناء تواجد بوكاسا خارج البلاد، وهو ما اضطره للجوء إلى كوت ديفوار ومنها إلى فرنسا، وصدر ضده حكمًا غيابيًا بالإعدام لارتكابه جرائم إنسانية متعددة، من بينها أكل لحوم البشر. لكن بوكاسا عاد إلى بلاده بشكل مفاجئ في أكتوبر 1986، وأُعيدت محاكمته في 12 يونيو 1987، حيث أُدين بقتل 20 سجينًا والقبض على تلاميذ المدارس الذين قتلوا خلال حكمه، وتم تخفيف هذا الحكم إلى السجن مدى الحياة في فبراير 1988، ثم أُطلق سراحه بعد العفو عنه في الأول من يناير 1993، وتوفي في العاصمة بانجي إثر أزمة قلبية في 3 نوفمبر 1996 عن عمر ناهز 75 عامًا. لم يلبث ديفيد داكو مجددًا في حكم إفريقيا الوسطى طويلاً بعد أن باءت جهوده لتحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي بالفشل، ليُطَاح به للمرة الثانية -في ثالث انقلاب تعرفه البلاد- على يد الجنرال "أندريه كولينجبا" في 20 سبتمبر 1981، والذي ترأس البلاد لمدة أربع سنوات من خلال "اللجنة العسكرية للخلاص الوطني"، والتي تم حلها في عام 1985، حينما شكل كولينجبا حكومة جديدة بمشاركة المدنيين، وبدأ الإسراع في خطوات لعملية التحول الديمقراطي في عام 1986 حيث أُقر دستور جديد للبلاد تم التصديق عليه في استفتاء وطني عام، وأتاح الدستور إقامة نظام رئاسي، وتأسس حزب سياسي جديد هو "التجمع الديمقراطي لإفريقيا الوسطى"، وأدى كولينجبا اليمين الدستورية كرئيس لجمهورية إفريقيا الوسطى في 29 نوفمبر 1986، ووفقًا للدستور أيضًا تأسس البرلمان (الجمعية الوطنية) من 52 عضوًا تم انتخابهم في يوليو 1987. وقد اضطر الرئيس كولينجبا أمام تعدد الضغوط الداخلية والدولية (خاصةً من فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية) إلى تأسيس لجنة وطنية لإعادة كتابة دستور جديد ينص على التعددية الحزبية، وتم إجراء أول انتخابات رئاسية تعددية تتمثل فيها أحزاب مختلفة في عام 1992، لكن حكومة كولينجبا أثارت العديد من المشاكل والمخالفات، حتى تتمكن من إلغاء نتائج هذه الانتخابات كوسيلة لإطالة أمد وجوده في منصبه. لكن الضغوط الدولية استمرت حتى تم إجراء جولة الإعادة لهذه الانتخابات في أكتوبر 1993، والتي فاز فيها "أنج فيليكس باتاسي" المدعوم من فرنسا والولايات المتحدة، وعقب ذلك صدر الدستور الجديد في 29 مايو 1994 بعد استفتاء شعبي، وأُقر رسميًا فى 7 يناير 1995. وسرعان ما واجهت حكومة باتاسي موجة من التمرد والاحتجاج في عام 1996 على خلفية تأخر رواتب العاملين في قطاع الدولة، وتفشي الفساد، وانتشار الإضرابات العمالية، وعدم المساواة في المعاملة بين الضباط العسكريين من مختلف المجموعات العرقية، ودخول البلاد في مرحلة من الفوضى في عام 1997 بعد انتشار عمليات النهب والسرقة من قبل جنود متطوعين في الجيش. ونجح باتاسي بمساعدة فرنسا -التي كانت قد سحبت في نفس العام قواتها من البلاد- في إخماد هذه الاضطرابات" وذلك بعد قيام باريس بتمويل مجموعة من الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية كي تشكل قوات لحفظ السلام تابعة لمنظمة الأممالمتحدة وصلت إلى العاصمة بانجي في مطلع عام 1998. وعلى الرغم من استمرار الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن عمليات السلب والنهب والتدمير خلال تمرد 1996 و 1997، وحدوث أزمة طاقة، وسوء الإدارة الحكومية، وتعسف وفساد النظام الحاكم، ووجود قلق في الجيش بسبب عدم انتظام الجنود، إلا أنه قد أُعيد انتخاب باتاسي لفترة رئاسية ثانية مدتها 6 سنوات في سبتمبر 1999 بعد تفوقه على تسعة مرشحين رئاسيين، في انتخابات قالت المعارضة إنها باطلة بسبب تعدد إجراءات التزوير. وفي 15 مارس 2003 شهدت إفريقيا الوسطى الانقلاب الرابع حينما سيطر المتردون على أجزاء من البلاد، وتحركوا صوب العاصمة بانجي، ونصبوا قائدهم، الجنرال فرنسوا بوزيزي، رئيسًا للبلاد أثناء تواجد الرئيس باتاسي في الخارج، وانتخب بوزيزي في نفس العام رئيسًا شرعيًا لأفريقيا الوسطى إثر انتخابات اعتبرها المراقبون حرة ونزيهة، وبعد تعهده بأن يقود مرحلة انتقالية مدتها عامان يترك بعدها منصب الرئاسة. ومع ذلك لم يتأسس إطار لاستعادة الهدوء في البلاد، حيث بقيت أجزاءً كبيرة من أراضي الدولة خارج سيطرة الحكومة" مما أدى إلى إبقاء مهمة عمل بعثة حفظ السلام الإفريقية في بانجي بعد أن بدأت الدولة في مهاجمة المتمردين الذين شكلوا تحالفًا أطلقوا عليه اسم (اتحاد القوى الديمقراطية من أجل الوحدة) بزعامة ميشيل دجوتوديا، وسرعان ما تحولت المواجهات إلى معارك كبرى في عام 2004. وتشكل هذا الاتحاد من عدة مجموعات أبرزها: جماعة العمل من أجل حرية أفريقيا الوسطى، واتحاد المدافعين عن العدالة والسلام، والجيش الشعبي لاستعادة الديمقراطية، وحركة أفريقيا الوسطى من أجل الحرية والعدالة، والجبهة الديمقراطية لأفريقيا الوسطى. وعلى الرغم من وعد الرئيس بوزيزي بتخليه عن السلطة في نهاية المرحلة الانتقالية، إلا أنه لم يفِ بهذا الوعد، وخاض الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في 15 مارس 2005، والتي تنافس فيها ضده مرشحو المعارضة الأساسيين، باستثناء باتاسي الذي كان قد لجأ إلى دولة توجو. وفاز بوزيزي بهذه الانتخابات في 8 مايو 2005، حيث حصل على 64.6 % من أصوات الناخبين، مقابل 35.4$ لمنافسه مارتن زيجيلي زعيم حركة حرية "تحرير" شعب إفريقيا الوسطى. وقد تمكن بوزيزي من تحقيق انتصار إضافي في الانتخابات البرلمانية لعام 2005 أيضًا (أجريت على مرحلتين في شهري يناير ومارس)" إذ فاز تحالفه الانتخابي المعروف باسم "اللقاء الوطني" ب 42 مقعدًا في البرلمان (الجمعية الوطنية)، فيما حصلت "حركة الحرية من أجل شعب أفريقيا الوسطى" على 11 مقعدًا، والتجمع الديمقراطي لأفريقيا الوسطى على 8 مقاعد، وتوزعت بقية المقاعد على المستقلين والأحزاب الصغرى. وبدت حكومة بوزيزي مستقرة نسبيًا خلال عام 2006، لكن أنصار الرئيس الأسبق باتاسي كانوا يعتقدون بأنه لا يزال الرئيس الشرعي للبلاد، ويعتبرونه قائد انتفاضتهم ورئيسهم القادم، فجهزوا حركة واسعة للتمرد. كما أن قبيلة ياكامو التي ينتمي إليها الرئيس السابق كولينجبا شكلت تهديدًا للحكومة في جنوب البلاد، وخاصة بعد مقاطعتها للجولة الثانية من الانتخابات التشريعية لعام 2005. وأمام تعدد حركات التمرد وقوى المعارضة تم التوصل في 13 إبريل 2007 لاتفاق سلام بين الحكومة و"اتحاد القوى الديمقراطية من أجل الوحدة"، ونص الاتفاق على العفو عن أعضاء الاتحاد، والاعتراف به كحزب سياسي، ودمج مقاتليه في الجيش. وأدى استمرار المفاوضات إلى توقيع اتفاق للمصالحة وتشكيل حكومة وحدة وطنية في يناير 2009، والاتفاق على إجراء انتخابات محلية في عام 2009 وانتخابات برلمانية ورئاسية في عام 2011. ووفقًا لاتفاق السلام تشكلت قوة جديدة متعددة الجنسيات في عام 2008 لإرساء السلام في البلاد، وتضم 500 جندي من الجابون والكونغو الديمقراطية وتشاد والكاميرون، وبدأت تنسحب تدريجيًا من أفريقيا الوسطى، حيث كان يفترض أن تغادر أفريقيا الوسطى نهائيًا بحلول 31 ديسمبر 2013. وفي 23 يناير 2011 أًجريت كل من الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وتمكن بوزيزي من الفوز بفترة رئاسية ثانية بحصوله على 64.4% من الأصوات، مقابل 21.4% لباتاسي الذي عاد للبلاد وترشح في انتخابات الرئاسة، و6.8% لمارتن زيجيلي. أما في الانتخابات البرلمانية فقد تمكن تحالف "اللقاء الوطني" الحاكم من الحصول على 62 مقعدًا (من أصل 105 مقعدًا هي عدد أعضاء الجمعية العمومية)، مقابل 26 مقعدًا للمستقلين، ومقعدين فقط لحركة الحرية من أجل شعب أفريقيا الوسطى، و15 مقعدًا لبقية الأحزاب المشاركة. والآن يبدو أن دائرة الانقلابات والانقلابات المضادة أضحت سمة مميزة لجمهورية أفريقيا الوسطى، إذ إن كل من جاء للسلطة بانقلاب أُطيح به في انقلاب مماثل" وهو ما يتعرض له الرئيس بوزيزي هذه الأيام" فهو يواجه حركة تمرد كبيرة من مجموعة سياسية مسلحة أطلقت على نفسها ائتلاف سيليكا المتمرد (سيليكا تعني التحالف بلغة السانجو، اللغة الوطنية)، والذي يتهم بوزيزي بأنه لم ينفذ أي من النصوص الواردة في اتفاق السلام لعام 2007 مع "اتحاد القوى الديمقراطية من أجل الوحدة" أو اتفاق العام 2010 الذي وقعه مع مجموعة أخرى من المتردين. فقد تمكن هذا التحالف خلال أسبوعين فقط من السيطرة على 10 مدن كبرى في البلاد، ومطالبة الرئيس بالتنحي عن الحكم بعدما أضحى على مقربة من الوصول إلى العاصمة بانجي، وذلك في الوقت الذي يتراجع فيه بوزيزي، ويقدم إطارًا للتفاوض يقوم على تقاسم السلطة مع المتردين، ويتعهد بعدم الترشح لانتخابات 2016" وهو ما يرفضه "ائتلاف سيليكا" الذي يبدو أنه عاقد العزم على عدم التراجع عن مطالبه وتمرده حتى إسقاط بوزيزي.