د. محمد مصطفى الخياط تنشر حاليًا جريدة الشرق الأوسط فصولاً من كتاب (دولة الخيمة) لمؤلفه الكاتب والإعلامى الليبى مجاهد اليوسفى، مُلقيًا الضوء على ليبيا خلال حكم العقيد معمر القذافى الممتدة لنحو أربعين عامًا (سبتمبر 1969 فبراير 2011). لم تكن ليبيا أوائل الخمسينيات، ومع تباشير استقلالها، سوى دولة فقيرة، لا تملك سوى موقع جغرافى متميز، ساحل يطل على البحر المتوسط بطول يتجاوز 1850 كيلومترا، فضلاً عن قربها البحرى من أوروبا، ومساحة 1,7 مليون كيلومتر مربع تتشارك بها مع حدود ست دول. تزامن اكتشاف البترول وبدء التعافى الاقتصادى مع انقلاب القذافى، الذى أخذ على عاتقه وحده رسم مستقبلها. (كان مُولعًا بالشهرة فصال وجال حاملاً معه خيمته ومصطحبًا ناقته، ومخلفًا وراءه الخوف؛ عمليات إرهابية، اغتيالات، ميليشيات مسلحة)، قال اليوسفي. ثم يستطرد: (... لم يتمكن من فهم الغرب على حقيقته أبداً، لا كعدو ولا كصديق، .. لم تكن فى الجماهيرية مراكز أبحاث ودراسات، ولا مجموعات عمل منظمة، ولا خلايا تفكير، ولا بنية تحتية لتعليم جيد قادر على التعبير عن نفسه بالكوادر والأفكار).. وجد القذافى فى نفسه وعقله وفكره ونظرياته ما يكفى ليبيا ويثبت دعائم أمنها القومى، ويحافظ على ثرواتها، ويرسم مستقبلها، (... ظل العقيد فى مركز الدائرة الذى يرسم النهج الجديد بحذر). فى نفس التوقيت تقريبًا، منتصف الستينيات، كان هناك بلد آسيوى، سنغافورة، بالغ الفقر، بلا موارد؛ لا ماء، لا نفط، لا غاز، ولا حتى تعليم، ضئيل المساحة، أقل من 1% من مساحة ليبيا، لفظتها ماليزيا خارج الاتحاد المشترك، بعد عامين من انضمامها إليه، لتجد نفسها وحيدة وعاجزة، لم يتمالك رئيس وزرائها آنذاك، لى كوان يو، حبس دموعه وهو يخطب فى أكثر من مليونى مواطن صبيحة الانفصال. كان أمامه أحد طريقين، البكاء على حاله ومطالبة المواطنين بمزيد من الصبر أو العمل سويًا على التطوير، وكعادة التغيير، واجه معارضة شرسة، انشق عليه حزبه فأسس حزب العمل الشعبى، خرج معارضوه فى مظاهرات وشجعوا العاملين على الاعتصام فزار مواقع العمل وشد على أيدى الكادحين فى صمت، فإذا كان أفضلهم عند الله أتقاهم، فإن أفضلهم للدولة أحسنهم عملا، لعبوا بورقة الأعراق فى بلد يتكون من خليط صينى ومالاوى وهندى وآسيوى فألغى الامتيازات الطائفية واعتمد الإنجليزية لغة رسمية وألقى بثقله على التعليم. تحرك فى كل الاتجاهات؛ علاقات خارجية، نقل خبرات الدول المتقدمة، تأسيس بيئة ديمقراطية نزيهة، إنشاء مؤسسات تجذب الاستثمارات الأجنبية، مستفيدًا من موقع يصعب تجاوزه على خطوط الملاحة البحرية الدولية، فازدهرت صناعة البتروكيماويات والإلكترونيات ومصافى تكرير النفط، ولتصبح سنغافورة فى غضون أعوام قليلة أهم ثالث مركز تجارى بعد نيويورك ولندن. وبينما كان العقيد مهمومًا بنشر نظرياته فى أرجاء العالم، كان كوان يو يقفز بسنغافورة فى الاتجاهات الأربعة ويمتلك بقوته الناعمة مساحات لا حدود لها، وفى الوقت الذى كانت فيه خطابات العقيد وتعليقاته الطفولية محل تعليق وتندر، يخلط فيها الشرق بالغرب، والاشتراكية بالإمبريالية، والاستعمار بقوى التحرر، كان كوان يو يخاطب شعبه بلغات أربعة حتى يفهموه، وفى الوقت الذى لم يتجاوز فيه إجمالى الناتج المحلى فى ليبيا المائتى مليار دولار، بفضل مبيعات النفط، تجاوزت سنغافورة الثلاثمائة مليار دولار، بفضل عقول أبنائها. الدول نتاج الأفكار، أفكار قادتها المتفاعلة إيجابيًا مع إبداعات قوتها الناعمة فى مناخ شفاف متوازن قادر على مواجهة التحديات، بيئة صحية تنبت فيها بذور الأفكار الطيبة لتصبح أشجارًا باسقة، وحدائق غَنْاء، بهجة للناظرين ومستقرًا لأبنائها.