د. طه عبدالعليم سجلت فى مقالى السابق أن آدم سميث اعتبر أن العائد على رأس المال هو ما يستولى عليه الرأسمالى من العامل الذى يحدد كدحه قيمة وسعر المنتجات، وأن ديفيد ريكاردو قد حوَّل نظرية أجور الكفاف إلى قانون الأجر الحديدى، الذى يتلخص فى أنه على الطبقات الكادحة الاكتفاء بالحد الأدنى للأجر اللازم لبقائها، وأن ارتفاع الأجور يؤدى الى زيادة السكان؛ فتعود الأجور إلى مستوى الكفاف! وأسجل، أولا، أن نظريات سميث وريكاردو كانت الشرارة والمفجر للهجوم على النظام الرأسمالى الصناعى، حيث أصبحت نظرية فائض القيمة مصدراً رئيسياً للسخط الثورى والتحريض من جانب كارل ماركس؛ أبرز المفكرين الناقدين للرأسمالية وأخطر الثائرين عليها. وفى هذا السياق، نفهم قول مفكر اقتصادى إنه إذا كان ماركس ولينين يستحقان تمثالين نصفيين فى قاعة عرض للأبطال الثوريين فإنه فى مكان ما فى الخلفية ينبغى أن يكون هناك متسع لريكاردو!! وفى نظريته عن النمو السكانى زعم توماس مالتس أن مسئولية فقر الفقراء تقع على عاتق الفقراء أنفسهم؛ لأن إفراطهم فى الإنجاب هو سبب فقرهم!. وأنكر مؤسسو الفكر الاقتصادى الرأسمالى الأسباب الأخرى لتدنى مستوى الأجور وقسوة ظروف العمل، وفى مقدمتها رفض الرأسماليين للموازنة بين الربح الخاص وربحية المجتمع. وثانيا، أن آدم سميث فى كتابه ثروة الأمم افترض أن يداً خفية تقود الفرد- وهى مصلحته الخاصة الأنانية- إلى تحقيق المصلحة العامة؛ بل هى السبيل الوحيدة لذلك! لكن هذه الفرضية برهن على زيفها تاريخ رأسمالية السوق الحرة، التى تنبذ تدخل الدولة فى الاقتصاد، وذلك من زمن صعودها فى مطلع القرن التاسع عشر، ومرورا بأزمة الكساد الكبير فى مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، وحتى الأزمة المالية الأمريكية مع نهاية العقد الأول من القرن الحادى والعشرين. بل وبرهن التاريخ على أنه لابد من ضبط السوق بتدخل الدولة، لضمان كفاءة تخصيص الموارد وعدالة توزيع الدخل، ولتحقيق التوازن بين حافز الربح الفردى وضرورات ربحية المجتمع، وهو ما دفع اليه الفكر الاقتصادى فى تطوره، لتجنب عواقب إفقار العمال وأخطرها الثورات الاجتماعية، وعواقب فوضى السوق وأخطرها الكساد والاحتكار!. وثالثا، أنه فى السنوات المبكرة للثورة الصناعية كان لدى العمال، الذين تقاطروا على المدن الصناعية والمصانع، ما يشبه اليقين بأن حياتهم ستتحسن؛ ولم تكن مقارنتهم مع ما كان لديهم من قبل، بل مع ما يتلقاه الآخرون. ومع منتصف القرن 19 تعاظم الفرق المفزع بين أجور العمال ومستويات المعيشة التى تتيحها لهم، ومثيلاتها لدى أرباب الأعمال أو الرأسماليين، وتراجع تأثير فكرة أن السلوك الجنسى للعمال هو السبب فى فقرهم. وكان هربرت سبنسر- وليس داروين- صاحب العبارة الخالدة البقاء للأصلح، وفى دفاعه عن النظام أعلن أن التفاوت والحرمان أمران مفيدان اجتماعيا!. وأن الحد من المشاق عمل ضار بالمجتمع!. وليس على وافرى الثراء أن يشعروا بالذنب لأنهم يتمتعون بثمار تفوقهم!. وأن الطبيعة قد انتخبتهم للتقدم نحو عالم أفضل!. وما زالت تتردد أفكار سبنسر، بأن إعانة الفقراء تديم فقرهم!. وأن الإحسان يضر ولا ينفع!. وأنه ينبغى مقاومة دور الدولة فى حماية الضعفاء!. ورابعا، أن الفكر الاقتصادى المدافع عن السوق الحرة مازال يردد أن رجل الاقتصاد لا يعنى بالعدالة أو بالرحمة عندما يقوم بدوره المهنى، وأن حديث المفكر الاقتصادى عن ظلم أو فشل النظام الاقتصادى أمور دخيلة على الاقتصاد. وليس هناك ما يصور الواقع أفضل من محاولات الإصلاح، ومنها مؤسسة نيولانارك التى امتلكها رأسمالى اسكتلندى أراد الاصلاح الاجتماعى، فذهب إلى ملاجئ الأيتام وأخلاها من نزلائها، ونقلهم إلى عنابر نوم أعدها لهم فى مدينته الصناعية النموذجية؛ حيث أصبح المطلوب من الأطفال أن يعملوا فى المصنع ثلاث عشرة ساعة فقط فى اليوم!. وعقب تولى صهره المصلح الاجتماعى روبرت أوين مهام إدارة المصنع، خفض ساعات العمل إلى إحدى عشرة ساعة فقط!. هكذا كان الإصلاح فى ذلك العصر؛ ورغم هذا فقد أثار معارضة الرأسماليين الصناعيين. وخامسا، أن البؤس لا مفر منه، والقانون الاقتصادى الذى يفرض هذا البؤس لا يمكن الخروج عليه؛ تلك هى الرأسمالية، وفق الرأسمالية الصناعية ومؤسسى الاقتصاد السياسى المعبرين عن مصالحها فى القرن التاسع عشر. وفى مواجهة هذا الفكر الرأسمالى ظهر الفكر الاشتراكى فى فرنسا، حيث كان رد فعل سيسموندى عنيفاً ضد الظروف الاجتماعية القاسية التى تميزت بها الرأسمالية الجديدة، وكان أحد أوائل المفكرين الاقتصاديين الذين تحدثوا عن وجود طبقتين اجتماعيتين، الأغنياء والفقراء، والرأسماليين والعمال، وأن مصالح احداهما فى تعارض دائم مع مصالح الأخرى، ورأى أنه على الدولة حماية الضعفاء من الأقوياء للحيلولة دون التضحية بالبشر من أجل تحقيق ثروات فردية. وأبدى برودون رأياً مزعجاً مؤداه أن كل عائدات الملكية أشكال من اللصوصية؛ ومن ذلك جاءت أشهر عباراته: الملكية هى السرقة!. سادسا، أنه فى منتصف القرن 19، وبقيادة كارل ماركس، جاءت نظرية الثورة الاشتراكية لإقامة ديكتاتورية الطبقة العاملة، ووجدت جذورها فى نظريات سميث وريكاردو، التى أعلنت أن كدح العامل هو ما يخلق قيمة المنتج، وأن الرأسمالى يستولى على فائض القيمة، أى الفرق بين ثمن بيع للسلعة وأجر الكفاف للعامل. لكن نبوءة ماركس عن حتمية الثورة الاشتراكية فى البلدان الصناعية الرأسمالية لم تتحقق لأسباب أهمها: التطور الهائل لقوى الانتاج بفضل الثورة الصناعية الرأسمالية، الذى جعل حياة العمال أفضل من حياتهم قبلها، وتطور الفكر والاصلاح الاقتصادى الاجتماعى الليبرالى، الذى وسع تدخل الدولة لمواجهة الأزمات والإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية للسوق الحرة، وإخفاقات النظم الاشتراكية الماركسية التى لم تنشأ على أى حال سوى فى المجتمعات التى لم تنتصر فيها الرأسمالية الصناعية. وهو ما يستحق تناولا لاحقا.