فى كتابه الصغير الجميل, رأيتُ رام الله، يقول مريد البرغوثى، الراحل الفلسطينى الكبير المغترب، الذى أخيرا وجد وطنه السمائى النهائى، بعد شتات فى البلاد وطواف فى الزمن: يصاب المرء بالغربة كما يصاب بالربو، ولا علاج للاثنين.. والشاعر أسوأ حالاً، لأن الشعر بحد ذاته غربة. وقد شُفى مريد الوطن من الغربة فى عيد الحب، ورحل حاملاً قلبه الأخضر فى الرابع عشر من هذا الشهر، ليلتقى برضوي، التى طالما تداوى من غربته فى قلبها. رحل فى عيد الحب، وكانت حياته قصة حب، بدأت على سلالم كلية الآداب بجامعة القاهرة، حيث جاء الفتى وهو دون العشرين (1963) ليدرس الأدب الإنجليزي، والتقى بقسم إنجليزى حبيبة عمره رضوى عاشور، التى كبرت معه لتصير روائية مبدعة وأستاذة فى الأدب، وأماً لابنه الذى نما فى عش الشقشقات وتعلّم أن يترنم ثم كبرت أجنحته فطار. كان كل واحد من ثلاثتهم وطناً وبيتاً للآخريْن، وحضناً يتداويان فيه من الغربة. وكان أن خطف غراب الداء رضوى من العش، فرحلت فى عام 2014, ليلحق بها مريد منذ أيام؛ لكن ما كتباه ماكثٌ فى الأرض، وقصة عش عشقهما مازالت تشقشق فى الأوراق. ونظرة عابرة فى أوراق مريد تكفى لكى نطّلع على قلب هذا العاشق، وكيف غنى باقتدار لمحبوبته. فى قصيدة «أنتِ وأنا» من ديوان طال الشتات, يخاطب الشاعر محبوبته رضوى فى ومضات مكثفة يتكون كل منها من بيتين، فيقول لها: «أنت جميلة كوطن محرر/ وأنا متعب كوطن محتل/.../ أنت مشتهاة كتوقف الغارة/ وأنا مخلوع القلب كالباحث بين الأنقاض». ثم يواصل صوره المدهشة ولغته غير المعتادة فى قصائد الحب، ليصف فى آن واحد غربته وشفاءه من داء الاغتراب المزمن وما يبثه فى الوجدان من شيخوخة قبل الأوان: أنت جسورة كطيار يتدرب/ وأنا فخور.. كجدته. وفى قصيدة رضوى من نفس الديوان، يظهر أثر قراءة مريد المتعمقة للأدب الغربيّ، فتبدو ملامح ولمحات من شتات عوليس وتوهته, ويد بنيلوبى الصناع تنسج فى صبر, فى إطلالة غير مباشرة من عالم ملحمة الأوديسا الهومرية عبر سطور قصيدة ثانية عن الحب وكيف يداوى ويشفي؛ ويد المحبوبة وكيف تجود ببلسم النجاة من وجع الغربة: على نولها فى مساء البلاد/ تحاول رضوى نسيجاً/ ../ وفى بالها أمةٌ طال فيها الحداد/../ وفى بالها أبيضٌ أبيضٌ كحنان الضماد. وقبل أن ننتقل إلى قصيدة حب ثالثة، أحب أن ألفت القارئ إلى سعة القماشة الشعرية عند مريد البرغوثي، عبر هذين المثالين، حيث تتراءى فى النموذج الأول لغة حداثية تستخدم النثر، وفى الثانية غنائية تحتفظ لنفسها بفرادة اللغة والصورة، رغم استخدامها للنغم التقليدى والحالة الرومانسية. أختم بقصيدة أخرى أشد غنائية ورومانسية تحمل اسم رضوى أيضاً، ولكنها هذه المرة من ديوان فلسطينى فى الشمس. والعالم الأسلوبيّ هنا أيضاً يشى بتنوع وغنى فى الأساليب، فكأن مريد يعطى لكل قصيدة مذهباً شعرياً خاصاً بها خالصاً لها: .. أوقفنى النيل جوار الشارع/ قاسمنى حفنة فستق/ وتحدثنا/ أخبرنى أنكِ ذات صباح/ قدمتِ له وردة/ فحماها بين الشطين على كفيه/ وأتى بجميع الأطفال يحدثهم عن رضوي/ ذات العينين الواسعتين/ أخبرني: أن الوردة كبرت فى وهج الشمس/../ حدثنى النيل وقال/ سألتنى عنها الأشجار/ سألتنى عنها قطرات الأمطار/ سألتنى عنها أطيار الفجر/ سألتنى عنها مصر.. ثم هذه النغمة البسيطة الأليفة والموجعة: «حين ذهبتِ/ تغيّر معنى الطرق على البابْ/ وتغيّر عنوان البيتِ». نعم، فقد كانت هى البيت. لكنكما تلتقيان الآن تحت الأشجار، وفى صحبة أطيار الفجر. رحمك الله يا أيها الشاعر القدير، والعاشق الكبير, مريد البرغوثى.