هكذا يقول الزميل الكاتب الصحفى والقاص محسن عبد العزيز فى عنوان مجموعته القصصية الجديدة متحدثاً عن شبه حياة: كأننى حي, لكنها رغم ذلك تستحق أن تعاش، وتعبيره القصصى عنها يستحق أن يُقرأ. تبدأ المجموعة بسلسلة من المشاهد والحكايات مستمدة كلها من طفولة الكاتب فى القرية، راسمة عالماً لا يخلو من الهناء، رغم الحزن والموت والخوف والرزق الشحيح؛ رغم الذئب، والسِمَّاوى قاتل كلاب القرية، واللصوص اللابدين فى حقل الذرة. يستهل محسن عبد العزيز كتابه بمشهد جنازة الأم, وينتهى المشهد بشعور الطفل الذى تيتم بأنه هو الذى يتدلى جثمانه لتبتلعه عتمة فَكّيْ الأرض المغفورين لينطبقا على روحه التى هى أمه. وبعد هذه النغمة الافتتاحية الجنائزية التى تحمل عنوان الكتاب: كأننى حى، يطالعنا الذئب فى القصة الثانية, الذئب الذى يتربص بالغنم وبالولد الذى يصحبها مرتعداً على حمارته الخائفة هى أيضاً، لكن الكلب الأحمر صديقه ورفيق صباه يُنقذ الموقف ويطارد الذئب حتى يطرده, ثم يأتى ذئب آخر فى هيئة إنسان: يأتى السمّاوى ليدس الموت فى قطعة لحم للكلب المغوار. إلا أنه فى قلب هذا العالم الذى يؤطره الحزن والموت والرعب، تعيش هناءة البراءة والإيمان الساذج والذات الذائبة فى الجماعة، حيث الكل فى واحدس كما قال كتاب الموتى المصرى القديم، وظل يردد كتاب الحياة فى مصر، خاصة فى الريف، حتى وقت قريب. ففى قصة الأذان، يسجّل الكاتب لحظة إفطار رمضان, حيث تمتد مائدة سماوية تشبع الروح قبل الجسد، ويلتم حولها أهل القرية كل فى داره، حول مائدة واحدة تجمعهم هى مائدة اللحظة السماوية، وقد رقّق الصوم قلوبهم وخفف من غلواء اللحم والدم، فى لحظة ينتظرها الأطفال منذ أن تبدأ شمس الظهيرة فى الميل من سمتها نحو حضن الأفق الغربي, فيصطفون أمام فرشة الشيخ عطية، بائع الرزق الأخضر الخارج لتوه من رحم الأرض ومؤذن القرية المتطوع الهاوى، كأنهم بنفاد صبر الطفولة يستعجلون صوته النديّ أن يسبق احمرار الشمس، ويتعالى زئيطهم الهنيء لاستباق ندهته الربانية, ليبدأ عرس القرية اليومى البسيط فى كل مغرب رمضانى. ومن أجمل حكايات المجموعة قصة: يضحك فى جنازته, عن رجل من أهل القرية أعطاه الله موهبة الضحك, يضحك من كل الناس ومن نفسه، ويُضحك الناس، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، على أنفسهم وعليه هو شخصياً، فى سخرية لطيفة لا تجرح. عاش الرجل فقيراً, لكن جلبابه الأبيض الواحد دائماً نظيف مكويّ، وحين مات بكاه كل أهل القرية، بينما ضحكاته وقفشاته تتردد فى آذانهم وقلوبهم، حتى وجثمانه يتدلى إلى حضن العتمة. وبعد، هذا مذاق من عالم قصص المجموعة الثلاثين، التى لم تتعدد صفحاتها كثيرا؛ لأن كاتبها لا يميل للإطناب والثرثرة، وهذه إحدى مزايا المجموعة. مزية أخرى، أشرت إليها منذ قليل، هى تلك الوحدة الفنية التى تتمتع بها القصص الأولى، تلك التى تدور أحداثها فى القرية، بحيث ترسم معاً لا ملامح حياة كاتبها فى صباه فحسب، بل هى تصنع معاً تعليقاً على الحياة، دون مباشرة أو تنظير أو تفلسف سافر، لكن باصطفاف الحكايات جنباً إلى جنب، فنرى تلخيصاً للحياة, حيث الفرح والضحك الصافى محفوف بالرعب والحزن والموت. باقى قصص المجموعة, بدءاً من القصة الحادية عشرة، تدور أحداثها فى المدينة، أو فى الذات الفردية لابن المدينة, لكن بعضها يتماس مع قضايا الوطن، فيمتلك رؤية جماعية تختلف طبيعتها عن حكايات القرية ونوعية الذات الجماعية التى تخصها. كما أن قصص المدينة تميل أحياناً للتعبير المجازى، كما فى قصة الزلزال. كأننى حى.. نثر قصصي, فى أفضل حالاته له كثافة الشعر، وفى كل حالاته يتمتع بفضيلة الإيجاز, ويقول الكثير فى كلمات قليلة.