تسببت إجراءات الإغلاق العالمية، للحد من انتشار وباء كوفيد- 19، في انكماش هو الأسوأ للاقتصاد العالمي منذ النصف الثاني من القرن الماضي، والذي ترتب عليه زيادة في معدلات الفقر العالمي لأول مرة منذ عقود، جراء خسارة الملايين لوظائفهم، أو تراجع دخلهم. ولذلك، تُعوِّل الحكومات والشعوب على تطوير لقاحات فعّالة في أقرب وقت، حتى يتسنى تخفيف الإجراءات الاحترازية القائمة، وتجنب موجة جديدة من الإغلاق خلال الأشهر المقبلة، ستؤدي حتماً إلى مزيد من التدهور الاقتصادي والمعاناة الإنسانية، خاصة في الدول والشرائح الأكثر فقراً. وخلال الأسابيع الأخيرة، أعلن بالفعل عدد من شركات الدواء العالمية تطوير لقاحات لفيروس كوفيد- 19 أثبتت، وفقاً لها، فعالية في مواجهة الفيروس، وحصل بعضها بالفعل على موافقات حكومية ببدء استخدامها بشكل طارئ. وبالتالي، من المُتوقع مع الإقبال السريع عليها أن تحقق شركات الدواء هذه مليارات الدولارات من الأرباح بسبب الأزمة، وفقاً لتسعيرها للقاح والحصة السوقية التي ستحصل كل منها عليها. توجه استثنائي وتعد هذه المساعي العاجلة لشركات الأدوية العالمية لتطوير لقاح لكوفيد- 19 أمراً استثنائياً إلى حد ما، نظراً لكون هذه الشركات غالباً ما لا تولي اهتماماً بتطوير لقاحات ضد الأمراض المعدية المختلفة، نظراً لغياب الحوافز الاقتصادية، بسبب ارتفاع كلفة البحث والتطوير اللازمين لهذه المهمة، بالتزامن مع عدم اليقين من تفشي المرض المرتبط باللقاح المُطوَّر على نطاق واسع من عدمه، أو فترة انتشار المرض والحاجة للقاح ومبيعاته، وهو ما يجعل من احتمالية الربح غير أكيدة بالمقارنة بالتكلفة. وعوضاً عن ذلك، تبدي كبرى شركات الدواء اهتماماً بالاستثمار في تطوير أدوية لعلاج الأمراض المزمنة، والتي تضمن وجود سوق دائم ومتنامي يحقق ربحاً مستمراً. وفي واقع الأمر، فإن كبرى شركات الدواء العالمية لم تسارع في بداية انتشار وباء كوفيد- 19 للعمل على إنتاج لقاح له، بسبب هذه الدوافع المرتبطة بعدم اليقين من ربحية هذه الاستثمارات، لكنها بدلت من موقفها بعد تدخل الحكومات وكبرى الكيانات الخيرية العالمية، لتمويل هذه الأبحاث من ناحية، وضمان المبيعات والأرباح، من ناحية أخرى. فوفقاً للتقديرات، موّلت الحكومات حتى الآن جهود البحث والتطوير المرتبطة بلقاح كوفيد- 19 في عدد من شركات الدواء ب6.5 مليار دولار، بينما ضخت المؤسسات غير الهادفة للربح 1.5 مليار دولار إضافية لتمويل هذه الجهود، في حين استثمرت الشركات مجتمعة من مواردها 2.6 مليار دولار فقط، وذلك مع العلم بأن إجمالي استثمارات التطوير في قطاع الدواء حول العالم يقترب من 200 مليار دولار سنوياً. وبالإضافة للتمويل، فقد وقّعت بعض الحكومات عقوداً مسبقة مع كبرى شركات الدواء لشراء كميات وصلت إلى مليارات الجرعات، إذا أثبتت اللقاحات قيد التجربة فعاليتها، بما يضمن للشركات المُطوِّرة أرباحاً ومبيعات فور التوصل للقاح. تساؤلات عديدة وبالتالي، يطرح هذا الدعم الحكومي في تطوير اللقاح، من خلال التمويل وضمان المبيعات، تساؤلات حول مدى أحقية الشركات الخاصة في تسعير اللقاح وفقاً لحساباتها، وتحقيق أرباح كبرى من ورائه خلال الوباء العالمي، والاحتفاظ كذلك بحقوق الملكية العلمية، واحتكار براءات اختراع اللقاح، الذي مولت الاستثمارات العامة وأموال دافعي الضرائب الجزء الأكبر من نفقاته. وتُضاف هذه التساؤلات الجديدة إلى اتهامات قديمة لكبرى شركات الدواء في العالم، ومنها المُطوِّرة للقاحات كوفيد- 19 المُجازة، بالمبالغة في تسعير أدويتها الضرورية التي تحتكرها، والتهرب الضريبي عبر إخفاء أرباحها في ملاذات ضريبية آمنة، بما يحرم حكومات الاقتصادات الكبرى سنوياً من ضرائب تساوي 3.7 مليار دولار تقريباً، وحكومات الاقتصادات النامية من ضرائب تُقدر ب100 مليون دولار سنوياً. وتعزز من التساؤلات حول حرية الشركات في تسعير اللقاح خلال ذروة تفشي الوباء احتمالية أن تعجز حكومات الدول النامية والفقيرة عن توفيره لمواطنيها في حالة المغالاة في سعره، وهو ما سيؤثر على قدرتها على فتح اقتصاداتها، وسيهددها بالتالي بالمزيد من الانكماش الاقتصادي والمعاناة الإنسانية، بما يفاقم من عدم المساواة حول العالم. ويأتي ذلك بصورة خاصة في الدول ذات التعداد السكاني المرتفع، والتي ستحتاج إلى كميات كبيرة من الجرعات، والتي ستُضاف كلفة شرائها إلى كُلفة النقل والتخزين والتوزيع على المواطنين. وتشير التقديرات إلى أن الكلفة الإجمالية لتطوير وتوزيع اللقاح عالمياً قد تصل إلى 25 مليار دولار، سيقع جزء كبير منها على الدول النامية والفقيرة صاحبة التعداد السكاني المرتفع. عقبات لوجستية كذلك، سيؤخر احتكار الشركات لحقوق إنتاج وتركيبة اللقاحات الأكثر فعالية من توفيرها على نطاق واسع لسكان العالم، نظراً للسعة الإنتاجية المحدودة لأي من هذه الشركات بمفردها، والتي ستستغرق وقتاً طويلاً لإنتاج عدد الجرعات الكافي. وسيتطلب ذلك مشاركة التركيبات وحقوق الإنتاج على نطاق واسع لتمكين عدد أكبر من الشركات من الإنتاج المتزامن، لتوفير اللقاح بالكميات الضرورية في وقت قصير. وكان أكثر من 140 من قادة دول العالم والخبراء المتخصصين قد وقعوا بالفعل خطاباً يدعو إلى ضمان توفير اللقاح بسعر التكلفة للحكومات، وبالمجان لجميع سكان العالم، ومشاركة براءات اختراعه وحقوق ملكيته بصورة مفتوحة، للسماح لأي دولة بإنتاجه محلياً، ومنع الشركات من التربح من وراء الأزمة، وتقديم الدعم المالي للدول النامية والفقيرة، لمساعدتها على توفير اللقاح لمواطنيها في أسرع وقت، حتى لا تستأثر به الدول الكبرى، التي ضمنت بالفعل شراء كميات كبرى من اللقاحات المُجازة. وفي حين قد تكون هذه الدعاوى طموحة بعض الشيء، إلا أن وباء كوفيد 19، والدور الحكومي الحيوي في الإنفاق على تطوير لقاح له، والتكفل بشرائه من الشركات لطرحه على المواطنين، والحاجة إلى إنتاج كميات كبيرة في وقت قصير، قد تفتح جميعها باباً أكبر للحكومات حول العالم، خاصة في الاقتصادات الكبرى، ومن ثم في النامية والفقيرة بعد ذلك، لتنظيم قطاع الدواء بصورة أكثر فعالية، عبر توجيه البحث والتطوير ناحية الأمراض الأكثر انتشاراً والتي تشكل الضرر الأكبر على الناس، وليس التي تضمن الربح الأعلى، مع ضمان التسعير العادل ومنح حقوق الملكية والاحتكار غير المبالغ فيهما، بما يحقق ربحاً مقبولاً للشركات الخاصة، ويضمن في الوقت ذاته توفير الدواء للمحتاجين بجرعات كافية وأسعار معقولة، لتحقيق المزيد من التوازن الضروري في هذا القطاع الحيوي.