بعد عام درامى ليس له مثيل، يغلق 2020 أبوابه بآخر دراما دولية وهى البريكست. فبريطانيا تقف على حافة الخروج من الاتحاد الأوروبى دون صفقة، أو فى أحسن الحالات بصفقة «فضفاضة» حول تبادل السلع، لا تتضمن قطاع الخدمات، خاصة الخدمات المالية، الذى يشكل 80% من الاقتصاد البريطاني. ومع ذلك فإن الاحساس بالخطر المحدق لم يسيطر بعد على 66 مليون بريطاني. فكثير من الآثار الاقتصادية والسياسية الأشد فداحة سيحدث تدريجيا. فمثلا تراجع الناتج المحلى الإجمالى بنحو 6% لن يحدث بين عشية وضحاها، لكن خلال المراحل الأولى من البريكست. ومن هنا لجأ البعض للمجاز السياسى للتعبير عن اللحظة التى تمر بها بريطانيا، وهى عدم الشعور بالخطر المحدق بالرغم من أن الخطر على الأبواب، معتبرين حال البريطانيين مثل الضفدع والماء المغلي. فعلى مدى قرون، اعتقد العلماء أن الضفدع الذى يلقى فجأة فى الماء المغلى يقفز منه فورا وبأقل الأضرار. لكن الضفدع الذى يُوضع فى ماء فاتر، ثم يبدأ غلى الماء تدريجيا لا يشعر بالخطر ويظل فى حالة «أمان زائف» إلى أن ترتفع درجات الحرارة لمستويات تؤدى لموته. والمجاز أن بريطانيا قد لا تشعر فورا بحقيقة تداعيات الخروج من الاتحاد الأوروبى دون صفقة على اقتصادها ولا على وحدتها السياسية، لكن عندما تبدأ فى الشعور بالتداعيات ستكون بالفعل فى الماء المغلي، وسيكون من الصعب عليها القفز منه قبل إلحاق إضرار فادحة بنفسها. فريق «سيناريو الكابوس» لكن لا شك أن رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون، يدرك المخاطر المتوقعة بسبب التقارير اليومية السرية التى تُوضع على مكتبه فى «10 داوننج ستريت» حول احتمالات طوابير طويلة من الشاحنات تمتد لأميال على الحدود، بانتظار التفيتش والمعاملات الجمركية، أو نقص الأغذية والأدوية، وارتفاع الأسعار، وتوقف كثير من المصانع بسبب تأخر قطع الغيار القادمة من أوروبا، أو الآثار السلبية على الأمن القومى البريطاني، بسبب تعثر مواصلة التعاون الأمنى والاستخباراتى بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. وربما من هذا المنطلق، شكل جونسون فى «داوننج ستريت» هذا الأسبوع فريقا سريا من المسئولين، لتنسيق استجابة الحكومة ل «سيناريو الكابوس» المتمثل فى البريكست دون صفقة، وارتفاع كبير فى حالات العدوى بفيروس كوفيد 19، والفيضانات الشتوية السنوية التى تكلف البلاد عشرات الملايين من الجنيهات الإسترلينية. وستقدم خلية التنسيق إحاطات سرية يومية إلى رئيس الوزراء، حول التهديدات المحتملة فى كل ملف، وطرق مواجهة هذه الاحتمالات. وبحسب المسئولون فى «داوننج ستريت» فإن هذا الشتاء قد يكون أقسى شتاء تشهده بريطانيا منذ عقود طويلة، بسبب حجم التحديات الملحة، خاصة الخروج من الاتحاد الأوروبى دون صفقة، وارتفاع العدوى بكوفيد 19 مما يهدد بفرض أقسى إجراءات إغلاق على العاصمة لندن. قصة المفاوضات الفاشلة وصلت بريطانيا والاتحاد الاوروبى لهذا الطريق المسدود بعد استمرار الخلافات على ثلاث قضايا رئيسية. القضية الأولى هى الخلاف بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، حول حصص الصيد فى المياه الإقليمية البريطانية. فحاليا يحق لأساطيل الصيد الأوروبية الصيد فى المياه البريطانية، كما يحق للأساطيل البريطانية الصيد فى المياه الأوروبية. لكن قطاع الصيد البريطانى الذى صوت نسبة هائلة منه للبريكست، يطمع فى وقف أساطيل الصيد الأوروبية من العمل فى المياه البريطانية، كرمز للسيادة بعد البريكست. وهذا مطلب مرفوض من المنظور الأوروبى حتى فى حالة الخروج دون صفقة. فهناك تفاهمات قديمة بعضها يعود لقرون حول الصيد فى المياه الإقليمية البريطانية، وهناك شركات صيد أوروبية اشترت حق الصيد فى المياه البريطانية. ويريد الأوروبيون حلا وسط يسمح لقواربهم بالصيد فى المياه البريطانية بالحصص الحالية أو بحصص قريبة منها حتى يتمكن قطاع الصيد، خاصة فى فرنسا واسبانيا وهولندا من البقاء، على أن تحدث التغييرات فى الحصص على مدى سنوات كى يجد الصيادون الأوروبيون بدائل أخرى. القضية الثانية هى شروط المنافسة العادلة. فالاتحاد الأوروبى يريد أن تلتزم بريطانيا بنفس قواعد الاتحاد الأوروبى فى معايير البيئة، وحقوق العمال، والدعم الحكومى للصناعات، وذلك مقابل أن يتم منح بريطانيا ممرا مفتوحا دون عوائق أو تعريفة جمركية للسوق الأوروبية الموحدة. لندن ترفض الطلب على اعتبار انه يقيد سيادتها ويجبرها على الالتزام بالمعايير الأوروبية. القضية الثالثة هى الحوكمة أو الجهة التى ستطبق الاتفاق التجارى بين لندنوبروكسل وستتدخل فى حالة نشوب نزاعات تجارية بين الطرفين. فالاتحاد الأوروبى يريد أن تكون محكمة العدل الأوروبية هى جهة الحوكمة، لكن بريطانيا تريد منظمة التجارة العالمية، وهو ما ترفضه الكتلة الأوروبية التى تقول إن منظمة التجارة العالمية «بطيئة جدا» فى حل الخلافات التجارية، ومعاييرها مختلفة عن معايير محكمة العدل الأوروبية. أجواء غريبة على مائدة عشاء بارد وعندما التقى جونسون ورئيسة المفوضية الأوروبية أرسولا فون ديرلاين على عشاء مع فريقيهما ليل الأربعاء الماضى، فى زيارة عاجلة لبروكسل، كان المأمول حل القضايا العالقة. لكن العكس حدث. فقد سادت أجواء باردة وغريبة، بحسب وصف مسئولين بريطانيين، مما جعل الحل الوسط أكثر صعوبة. فقد بدأ اللقاء بأن أشارت فون دير لاين بيدها لجونسون بالابتعاد، عندما حاول الاقتراب منها لالتقاط الصورة المشتركة قائلة له: «حافظ على المسافة الخاصة بك»، بسبب قواعد كوفيد 19 الصارمة فى بروكسل، فوضع جونسون ابتسامة مرتبكة على وجهه. أما المفوضية الأوروبية، فقد وضعت العلم البريطانى أمام مبنى الاتحاد الأوروبي، وهى المرة الأولى التى يحدث فيها ذلك منذ خرجت بريطانيا من التكتل، لكن المراقبين ذوى العيون الحادة لاحظوا أن العلم البريطانى كان مقلوبا، وهى طريقة تُستخدم تقليديا للإشارة إلى الضيق. وعلى العشاء نفسه، بدأ جونسون بنكتة ألقاها لكسر الجليد، قائلا عندما اقترب منه كبير المفاوضين الأوروبيين ميشال بارنييه «لقد أصبتنى بكورونا»، فى إشارة إلى مزاعم صحفية ذكرت، أن جونسون قد يكون أصيب بعدوى من بارنييه الذى أصيبت بالفيروس الكورونا. لكن بارنييه، غير المعروف بروح الدعابة، رد قائلا « لا...أنت الذى أصبتنى بكورونا». بعد ذلك جلس الطرفان على مائدة عشاء مليئة بالرسائل السياسية. فالطبق الأول كان الاسكالوب المشوي، أما الطبق الرئيسى فكان (السمك والخضار المطهو بالبخار). هيمنة أطباق السمك لم تخف على الفريق البريطاني،، فهى إشارة إلى النزاع على حصص الصيد. أما الحلوى فكانت «بافلوفا»، وهو نوع من الحلوى الأسترالية الشهيرة. ولم تخف الرسالة أيضا على الفريق البريطاني، فهى إشارة لتلويح جونسون بالخروج دون صفقة، والتبادل التجارى مع أوروبا على غرار «النموذج الاسترالى»، أى بمعايير منظمة التجارة العالمية. فشلت المفاوضات فى بروكسل فشلا ذريعا. ولاحقا عندما عاد جونسون إلى لندن وطرح فكرة لقاء الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون فى باريس، أو المستشارة الألمانية انجيلا ميركل فى برلين، أو الحديث معهما عبر الهاتف ، اتصل مسئولون فرنسيون وألمان بجونسون، وأخبروه أن هذا لن يحدث لأن ماكرون وميركل لا يريدان التدخل، وأن أرسولا فون ديرلاين وميشيل بارنييه، لديهما تفويض كامل و«يعبران عن الموقف الأوروبى الموحد من المفاوضات». وكانت الرسالة الأوروبية لجونسون واضحة ولا شك فيها وهى «خذ الصفقة أو اتركها». دبلوماسية الزوارق الحربية لم تعجب الرسالة جونسون، فوجه رسالة مضادة جاءت على لسان وزارة الدفاع البريطانية، التى أعلنت أن أربع سفن حربية بريطانية قد وُضعت على أهبة الاستعداد لحماية المياه البريطانية من سفن الصيد التابعة للاتحاد الأوروبى اعتبارا من 1 يناير 2021. ووصف توبياس إلوود العضو البارز فى حزب المحافظين، خطوة نشر زوارق حربية بريطانية لمنع زوارق الصيد الفرنسية من الصيد فى المياه البريطانية بأنه «غير مسئول» و«غير لائق»، محذرا من أنه بدلا من التركيز على الايجابيات ومحاولة التوصل لصفقة فى اللحظة الأخيرة، تتعامل حكومة جونسون مع الملف كأن لندنوباريس عادا قرونا للوراء. أما وزير العدل فى الحكومة الاسكتلندية فقال «إن دبلوماسية الزوارق الحربية البريطانية هذه غير مرحب بها فى المياه الاسكتلندية. سنحمى مصائد الأسماك لدينا عند الضرورة... لكننا لن نفعل ذلك بتهديد حلفائنا فى الناتو، من خلال التهديد بإغراق سفنهم.» وسواء خرجت بريطانيا دون صفقة أو بصفقة فضفاضة فى آخر لحظة، فإن الأمر فى نظر كثيرين سيعتبر «فشلا ذريعا» لبوريس جونسون. فرئيس الوزراء البريطانى قال، إن الصفقة مع الاتحاد الأوروبى ستكون «أسهل صفقة فى التاريخ» فإذا بها تتعثر وتؤدى لخلق مرارات وعدم ثقة مع الحلفاء الأوروبيين. لكن الأهم أنه بحلول 1 يناير 2021 لن يُغلق ملف البريكست. بل ستبدأ فصول جديدة منه. فبريطانيا تحتاج إلى تفاهمات تجارية مع الاتحاد الأوروبي، أكبر شريك لها، ولو حتى بقواعد منظمة التجارة الدولية. وهذا يعنى أن الطرفين سيتفاوضان من جديد للتوصل لتفاهمات حول المسائل التى لا تقبل التأجيل، مثل التعاون فى مجال الطيران، والأمن، وتبادل المعلومات الاستخباراتية. هل ندمت بريطانيا؟ هناك توافق عام على أن البريكست بكل تداعياته الاقتصادية والسياسية التى يراها الناخب البريطانى اليوم، لو كان علم بها 2016 لما صوت على البريكست أصلا. وهذا الأسبوع كتب وزير الخزانة البريطانى السابق جورج أوزبورن فى صحيفة «إيفننج ستاندرز» أنه لو علم البريطانيون شكل البريكست لما صوتوا على الخروج من الاتحاد الأوروبى أبدا. وحذر من تفكك بريطانيا، وتوحد شطرى ايرلندا، واستقلال اسكتلند، قائلا إن «التاريخ قد يظهر أن القوميين فى اسكتلندا وأيرلندا، هم أكبر المستفيدين من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو أمر مثير للسخرية لأنهم لم يصوتوا لمصلحته». أمريكا لفظت دونالد ترامب، الرفيق الروحى لمشروع البريكست، لكن بريطانيا لا تستطيع الآن لفظ البريكست. يجب أن يُطبق أولا ثم يفشل كى يُقرر البريطانيون أنهم يريدون النكوص عنه. لكن ثمن ذلك قد يكون الاقتصاد البريطاني، ووحدة المملكة، وسمعة بريطانيا كدولة براجماتية ورشيدة وحليف موثوق به.