: عنوان أحدث روايات الكاتب الكبير محمد المنسى قنديل ، الذى عادة ما تتميز رواياته بطابع مأساوى موجع، منذ عمله الروائى الأول انكسار الروح، مرورا ب «أنا عشقت» و«الكتيبة السوداء»، وسط أعمال أخرى، وصولاً لهذا العمل. وقنديل ينتمى لمجموعة من الروائيين أبناء مدينة المحلة الكبرى أحبهم على المستويين الأدبى والشخصى، منهم فقيد الأدب سعيد الكفراوى الذى ودعنا منذ أسابيع، والكاتب العذب قلما وحضورا إنسانيا جار النبى الحلو، والصديق المبدع محمد داود الذى ينتمى لجيل تال للمنسى قنديل والكفراوى وجار النبى، لكنه يشبه المنسى فى أمرين: أولهما أنه طبيب، والثانى ذلك الألم الإنسانى السارى فى أعماله. وربما كان هناك ارتباط بين الحس المأساوى وتجربة الطبيب الإنسانية، منذ أن وصفها يوسف إدريس ، الطبيب الكاتب، فى قصصه القصيرة منتصف القرن الماضي، وقبله تشيكوف. و« طبيب أرياف » تنتمى بالتأكيد لنبع الألم، الذى كان يتفجر فى الريف المصرى حتى عهد قريب: وباء البلهارسيا المفزع، الذى كانت دودته تأكل كُلَى الفلاحين وأكبادهم فتنزف دماؤهم فى البول ومأساتهم فى قلوبنا، منذ أن نشأ الأدب المصرى الحديث، وحتى ثمانينيات القرن الماضى حيث تدور أحداث هذه الرواية، التى تبدأ عام 1980. ولا ندرى إن كانت نابعة من التجربة الحياتية للكاتب، الذى لم يَطُل به العمل كطبيب، بل احترف مبكرا الأدب والصحافة؛ أم إنها مستلهمة من التجربة القومية لأطباء مصر الذين كان بعضهم يبدأ مكرها حياته العملية فى قرى مصر، التى لم تدخلها الكهرباء إلا فى العقدين الأخيرين من القرن العشرين، فيمكث الطبيب محاطا بالحزن وقلة الحيلة، يحاصره الداء ونقص الدواء، ويحاول قضاء أقصر وقت ممكن فى جيرة الفئران والعتمة، والهياكل الصفر لرجال ينزفون أرواحهم هم وأطفالهم فى البول صباح مساء. هذا ما تبدأ به، وتتواصل حتى تنتهى، رواية طبيب أرياف ، التى تحكى عن طبيب مصرى مثقف تنكره مدينته وتتنكر له، ولا يجد أمامه إلا الصعيد الجوانى، ليعمل طبيبا فى إحدى قراه. لكن الريف فى حالة هذا الطبيب بمثابة منفى قسرى واختيارى معا. فحين تنسدُّ فى وجهه شوارع وميادين المدينة الكبرى، وتتخلى عنه حبيبته، وتركله الأقدام إلى تلك البقعة المعتمة النائمة تحت النخل، ينفتح قلبه لها رغم كل شىء عازما أن يمد فيها جذوره، التى اجتُثت من أرض مدينة بلا قلب، ومن قلب امرأة تشبه تلك المدينة. ويظن ذلك الطبيب - أخيرا - أن الحياة ابتسمت له، بعد أن أشرقت عليه أنثى بهية، تشبه كثيرا حبيبته التى لفظته، تعمل ممرضة فى الوحدة الصحية التى يرأسها فى تلك القرية. وحقا تبتسم له الحياة والفتاة معا، لكن يتجهمه القدر، حين يكتشف أن تلك الريفية الجميلة متزوجة من ابن عمها، الذى هو أيضا، كمعظم رجال القرية، تنهش كبده الدودة القومية القدرية - التى كانت تعيث فينا نهشا حتى زمن قريب - وينزف دماءه ورجولته وعنفوانه فى بوله اليومي. ويحدث التقارب الحتمى بين الطبيب الذى لفظته الحياة والحب، وبين الزوجة الشابة التى يذوى رجلها ويموت يوميا مع كل شمس تشرق. ويرتكب الاثنان - الطبيب والممرضة - الخطأ المأساوى الذى يجلب الكارثة. فالطبيب يرى فى الممرضة، واسمها فرح، فرصته الوحيدة للفرح، وتعويض انسحاقه فى الحب والحياة ، بعد أن لفظته المدينة والمرأة التى أحبها. والممرضة، التى يئست من أن يمنحها الزوج طفلا تحمله وتعيش من أجله، تنجذب نحو الطبيب، ظانة أنها تحبه، وتنتظر منه أن يهبها الولد الحلم. ويحدث الحمل، ويستمر وهم الحب، حتى يرتكب الطبيب خطأه التراجيدى الثاني.. لتتعمق المأساة التى سنتابع معا إن شاء الله فى السطور القادمة انطباق فخها على قلوب أهل الحكاية. * نقلًا عن صحيفة الأهرام