د. محمد عباس ناجي رغم أن اغتيال محسن فخري زاده رئيس مؤسسة الأبحاث والتطوير في وزارة الدفاع الإيرانية ، ليس الأول من نوعه، حيث سبق أن شهدت إيران عمليات اغتيال عديدة لبعض علمائها النوويين في الفترة بين عامى 2010 و2012، إلا أن العملية الأخيرة التي وقعت في 27 نوفمبر الجاري، تكتسب أهمية وحساسية خاصة لاسيما من جهة توقيتها. إذ إنها تأتي في وقت تواصل إيران تطوير برنامجها النووي ردًا على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي وفرض العقوبات الأمريكية عليها؛ حيث رفعت مستوى تخصيب اليورانيوم من 3.67% إلى 4.5%، وزادت كمية اليورانيوم المخصب من 202.8 كيلو جرام إلى أكثر من 2442.9 كيلو جرام، أى بما يتجاوز 12 ضعف ما يسمح به الاتفاق، ووسّعت نطاق عمليات التخصيب ليشمل منشأة فوردو التي تم بناؤها تحت الأرض إلى جانب مفاعل ناتانز، وبدأت في تركيب أجهزة طرد مركزي أكثر تطورًا من طراز "آى. آر- 2 إم" وضخ غاز سادس فلورايد اليورانيوم فيها. كما أن تلك العملية تتوازى مع تزايد احتمالات إقدام إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن على إجراء تغيير في السياسة الأمريكية تجاه إيران في إطار مقاربة "العودة مقابل العودة"، أى عودة إيران إلى الالتزام بما يقضي به الاتفاق النووي مقابل عودة الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى المشاركة فيه، بما يعني إنهاء العمل بما يسمى "سياسة الضغوط القصوى" التي تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لدفع إيران إلى الاستجابة لدعوتها من أجل إجراء مفاوضات جديدة للوصول إلى اتفاق مختلف يتضمن مجمل الملفات الخلافية العالقة بين الطرفين، بما فيها ملف الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي. من هنا، فإن إيران وجّهت اتهاماتها المباشرة إلى إسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية، مرفقة بتهديدات بالرد ب"شكل قاسٍ وسريع" على تلك العملية التي شكلت اختراقًا أمنيًا لا يبدو هينًا. ويعني ذلك أن طهران فهمت الرسالة التي توجهها تلك العملية، ومفادها أن محاولات عرقلة البرنامجين النووي والصاروخي ستتواصل بطرق أخرى طالما أن ذلك لم يتحقق من خلال العقوبات الأمريكية ، رغم التداعيات القوية التي فرضتها الأخيرة على الاقتصاد الإيراني. أزمة حرجة: وفي الواقع، يمكن القول إن تلك العملية وضعت إيران في مأزق مزدوج. إذ إن إقدامها على تنفيذ تهديداتها بالرد، الذي يهدف إلى رفع كُلفة هذا النمط من العمليات، قد يمثل مغامرة غير محسوبة في هذا التوقيت لاعتبارين رئيسيين: أولهما، أن ذلك قد يكون كفيلًا بتوسيع نطاق المواجهة الحالية غير المباشرة وربما انتقالها إلى مرحلة المواجهة المباشرة، في ظل حالة التحفز التي تبدو عليها واشنطن وتل أبيب تجاه الأنشطة التي تقوم بها طهران على المستويات المختلفة، النووية والصاروخية والإقليمية. وقد بدا لافتًا في الفترة الأخيرة أن إسرائيل وسّعت من نطاق هجماتها على المواقع التابعة لإيران وحزب الله اللبناني في سوريا، وكان آخرها في 26 نوفمبر الجاري. وسبق ذلك تهديدات مباشرة من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 9 أكتوبر الفائت، ب"الرد بطريقة لا تتوقعها إيران" في حالة استهدافها مصالح أمريكية. ورغم أن إيران عادت من جديد إلى الترويج ل"الانتقام" لمقتل قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني في العملية العسكرية التي شنتها الولاياتالمتحدةالأمريكية، في 3 يناير الماضي، بما يعني أنها لم تكتف بالضربات الصاروخية التي وجهتها لقاعدتين عراقيتين تتواجد بهما قوات أمريكية بعد ذلك بخمسة أيام، فإن ذلك قد لا يكون خيارًا آنيًا، خاصة أنها مقبلة على استحقاق سياسي مهم يتمثل في الانتخابات الرئاسية التي سوف تجرى في 18 يونيو القادم، فضلًا عن انشغالها في احتواء تداعيات انتشار فيروس كورونا. وثانيهما، أن ذلك يمكن أن يضع حدودًا للتفاهمات المحتملة التي قد تصل إليها طهران وإدارة بايدن بعد توليه مهام منصبه في 20 يناير القادم، وربما يؤدي مبكرًا إلى عرقلة أية محاولات قد تبذل في هذا السياق، باعتبار أن أى رد عسكري إيران يستهدف مصالح واشنطن وتل أبيب سوف يقلص من هامش الخيارات وحرية الحركة المتاح أمام الإدارة الديمقراطية الجديدة التي سوف تواجه ضغوطًا قوية في هذه الحالة قبل أن تقدم على اتخاذ خطوات على الأرض لتنفيذ مقاربة "العودة مقابل العودة". ثمن الصمت: من ناحية أخرى، فإن عزوف إيران عن الرد سوف يوجه رسائل مباشرة بأنها لا تستطيع القيام بذلك رغم كل التهديدات التي توجهها إلى الأطراف المختلفة، وربما يمهد هذا الموقف إلى تنفيذ مزيد من تلك العمليات التي يمكن أن تعرقل فعلًا جهود إيران لتطوير برنامجيها النووي والصاروخي وتساهم في إرباك دورها الإقليمي الذي يواجه بدوره ضغوطًا غير مسبوقة بفعل المعطيات الجديدة التي فرضها مقتل سليماني. وهنا، لا يمكن الفصل بين اغتيال فخري زاده، الذي يمثل ضربة "قاسية ومريرة" لطهران، حسب تصريحات رئيس هيئة أركان القوات المسلحة محمد باقري، وبين الهجمات التي تعرضت لها منشأة ناتانز، التي تمثل إحدى أهم ركائز البرنامج النووي في 2 يوليو الماضي وقبلها بأسبوع مجموعة "همّت" الصناعية المرتبطة ببرنامح الصواريخ الباليستية. فالهدف من كل تلك العمليات واحد، وهو تعطيل البرنامجين النووي والصاروخي، بعد أن أصرت إيران على مواصلة تطويرهما، على نحو بدا جليًا في رفع مستوى تخصيب اليورانيوم وزيادة كمية اليورانيوم المخصب، بالتوازي مع إجراء تجارب لإطلاق صواريخ باليستية في الفترة الماضية. توجه مستمر: من هنا، يمكن القول إن تلك العملية الأمنية قد لا تكون الأخيرة. فطالما أن احتمال إقدام إدارة الرئيس بايدن على محاولة فتح قنوات تواصل مع طهران ما زال قائمًا، لاسيما في ظل الرسائل الإيجابية التي وجهتها الأخيرة في هذا الصدد، فستكون هناك تحركات على الأرض لفرض أمر واقع جديد قبل أن تصل التفاهمات المحتملة بين طهران وإدارة بايدن إلى مرحلة العودة مقابل العودة. وبمعنى آخر، فإن هناك سباقًا مع الزمن لوضع حدود لتلك التفاهمات المحتملة، بحيث تتضاعف العقبات التي يمكن أن تحول دون عودة الاتفاق النووي إلى مربعه الأول من جديد. خبير بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام