هذا هو الشتاء الثانى الذى يعاود فيه ذلك الوحش الضئيل الذى لا يُرى إلا معملياً ممارسة إرهابه الخبيث الخفيّ على قلوبنا وأجسادنا. ذلك الشيء الذى يبدو فى ظاهره لا شيء، وفى باطننا يمارس سطوة غير متناسبة إطلاقاً مع حجمه، بدأ عربدته فى ديسمبر الماضى مع دخول البرد ، وها هو يدق أبوابنا من جديد بقوة منذرة، خاصة فى بلاد البرد، بلاد الشمال، وإن كانت بلاد الدفء النسبّى لا تسلم منه تماماً، وسننتصر عليه فى النهاية لا شك، كما انتصرت البشرية من قبل على أوبئة أعتى منه، ولكن لنكن حذرين. والخبرة التى اكتسبناها من الشتاء السابق تجعلنا أقل رعباً وأكثر تيقظاً ودربة على مواجهة الثور الميكروسكوبى الهائج المدعو كورونا إعلامياً، وعلمياً كوفيد19. وإذا كانت المواجهة الميدانية تقوم على العلم ومؤسسات الدولة والمجتمع، فإن مواجهته نفسياً ربما تعتمد فيما تعتمد على الشعر والروحانيات. وربما كان أكثر ما يحضرنى الآن من الشعر انطباقاً على ما نحن فيه على اتساع كرة الأرض، من برد ووباء وكُمون فى البيوت، تلك الرباعية لصلاح چاهين ، التى تلخص، ككثير من شعره وأعماله الفنية عموماً، الحال الذى نحن فيه: دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت/ وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت/ وحاجات كتير بتموت فى ليل الشتا/ لكن حاجات أكتر بترفض تموت» هذا التحدى والإيمان ب قوة الحياة وغلبتها هو ما نحتاج إليه شعرياً ويداوينا روحياً، إلى جانب الدور الرئيسى للعلم والتنظيم الاجتماعى. وكما يقول الساسة، بمعنى أحياناً وأحياناً بغير معني، المطلوب هو: التفاؤل الحذر، تفاؤل يلتزم بالكمامة وغسل اليدين بالطريقة التى يصفها الأطباء، والتطهير المنتظم بالكلور والكحول، وتوفير ما يلزم من عناية طبية ومجتمعية، والحرص والحذر والاحتراز فردياً وجماعياً، والتوكل على الله فيما عدا ذلك. ولنتذكر دائماً ما تؤكده كل شواهد التاريخ من أن النصر النهائى دائماً لنا نحن البشر، وأن قوة الحياة فى الطبيعة والإنسان تغلب - بإذن خالقهما - ناموسَ الموت ، الذى ما هو إلا نظام طبيعى مسخّر لخدمة الحياة فى النهاية. فبعد كل شتاء يأتى الربيع، موسم الدفء والتوالد وانتصار وازدهار الحياة. والشتاء الثانى ل كورونا الذى نحن الآن على أبوابه سيترك الأرض مخلفاً بعض الجراح، التى يزداد وجعها فى موسم البرد، لكنّ الدفء الذى سيأتى لا محالة، سيأتى معه بإذن الله الدواء الشافي، وسيتوصل العلم إلى ما يستلزمه التخلص من هذا الوباء والتحصن ضده. ونحن ننتظر أن يهزم التعقل والحكمة الأنانيةَ القصيرة النظر، فلا يستأثر العالم الأكثر غِنيً وتقدماً بالترياق، لأن استمرار وجود السم فى المحصلة النهائية هو خطر على الجميع. وأخيراً لا أدعو إلى التفاؤل الأبله، فالأحمر هو لون الورد والدم، وهو لون الشروق والغروب. والشروق كلمة تنبع من الشرق، كما أن الغرب أصل كلمة غروب، ولكنا نرى فى عصرنا حضارياً الشروق فى الغرب والغروب فى الشرق. لكن يظل الورد فى كل مكان، وشروق الشمس فى كل صباح فى كل البلدان. والخطر المحيط بنا ليس هيناً ولا بسيطاً، ولكنّ الحياة تظل هدية ثمينة نولد بها ونحرص عليها وتعلمنا زهور الربيع والصبايا وكتب الشعر أن نحبها، رغم الشوك والدم والأوبئة، ورغم ما فى مخلوقات الأرض من عنف وشراسة، وضعف إزاء المرض. نعم، لقد حل الشتاء الثانى فى روزنامة كورونا ، لكن موسم البرد سيعقبه الدفء المؤكد. والعلم، أثمن ما أنتجه الإنسان، أمامه الآن معركة لا أشك أنه سيحسمها لمصلحة الإنسان، بمشيئة من وهبنا نعمة العقل.. التى أحياناً ما تكون نقمة، ولكن هذا حديث آخر. * نقلًا عن صحيفة الأهرام