د. محمد السعيد إدريس انتهت الانتخابات الأمريكية فعليا، بحصول المرشح الديمقراطى جوزيف بايدن (جو) ونائبته كامالا هاريس على 290 صوتاً من الأصوات الكلية الانتخابية ويكفيهما فقط الحصول على 270 صوتاً للفوز بالمنصبين، لكن هذه الانتخابات لم تنته بعد رسمياً بعد أن رفعت حملة الرئيس دونالد ترامب طعنها فى نتائج بعض الولايات المرجحة لفوز بايدن إلى القضاء مطالبة بإعادة الفرز مرة أخرى فى الولايات المختلف عليها مع استبعاد بطاقات الاقتراع عبر البريد. وبعد أن أصر الرئيس دونالد ترامب على التأكيد أنه الفائز فى الانتخابات. فى ذات الوقت لم تحسم نهائياً نتائج انتخابات الكونجرس وبالتحديد مجلس الشيوخ. حيث مازال التنافس على أشده بين الديمقراطيين والجمهوريين على مقعدى ولاية جورجيا التى ستعاد فيها الانتخابات فمن ناحية يسعى الديمقراطيون من أجل الفوز بمقعدى هذه الولاية عندها سيصبح لهم 49 مقعدا داخل المجلس مع تأكيد ترجيح صوت كامالا هاريس نائبة الرئيس باعتبارها دستورياً رئيس مجلس الشيوخ، ومن الناحية الأخرى يقاتل الجمهوريون على هذين المقعدين للفوز بأغلبية مجلس الشيوخ فى محاولة منهم لتحقيق توازن السلطات مع الديمقراطيين الذين فازوا فى انتخابات الرئاسة وأغلبية مجلس النواب . رغم ذلك هل يعنى هذا الفوز للمرشح الديمقراطى بالرئاسة والنجاحات التى تحققت فى انتخابات الكونجرس والتى يأمل فى تحقيقها أنه سيكون بمقدوره أن يستعيد الولاياتالمتحدةالأمريكية كدولة قائدة، وأن يحقق «الوئام والانسجام والوحدة الوطنية» بعد كل ما حدث وفى ظل ما هو قائم ومؤكد من انقسامات واستقطابات حادة؟ هل سيكون بمقدوره تجاوز كل ما حدث من صراعات حادة طيلة الأشهر الماضية، وأن ينهى كل العداءات التى تفجرت بين الأمريكيين؟ كثيرون يرون أن جو بايدن «يطارد المستحيل» وأن النيات الحسنة لا تكفى لعلاج كل، أو حتى بعض ما أفسدته الانقسامات والصراعات الانتخابية التى أخرجت من المجتمع الأمريكى أسوأ ما فيه. كما يرون أن « الكلام المعسول » الذى تحدث به بايدن فى ذروة الاحتقان الانتخابى مع انتهاء التصويت مساء الثلاثاء الماضى وبدء عملية فرز الأصوات، لا يكفى لتضميد الجراح التى مازال الرئيس دونالد ترامب ينكأ أوجاعها بإصراره على رفض الهزيمة وقبول فوز بايدن ، وإصراره على تجييش جماهيره الضخمة التى صوتت له ولم تخذله (71 مليون صوت) لإفشال فوز بايدن ، الأمر الذى يعمل فى الاتجاه المعاكس لمساعى بايدن الرامية إلى إعادة توحيد الأمريكيين، ونسيان كل ما حدث، وإعلانه رفض معاملة الخصوم الانتخابيين كأعداء. الذى يبشر به عنواناً للحكم فى إدارته الجديدة. التحدى الأول يتعلق بالحزب الديمقراطى، الذى فاز ظاهرياً بالرئاسة وبأغلبية مجلس النواب، وينتظر مجلس الشيوخ كما فاز بعدد لا بأس به من حكام الولايات، لكن الحزب الذى توحد فى معركته الانتخابية ضد الجمهوريين توحد بشروط تياراته السياسية التى تزداد تباعداً بين تيار ليبرالى تقليدى ينتمى إليه بايدن وعدد كبير من رموز الديمقراطيين وبين كل من تيار يسار الوسط وتيار اليسار الأقرب إلى الفكر الاشتراكى. التياران الأخيران سوف يسعيان لفرض نفسيهما بقوة سواء كأعضاء فى الإدارة الجديدة أو على أجندة الحكم بإعطاء الأولوية لتحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة التمييز العنصرى. والمطلوب من بايدن أن يبتدع الصيغة التوحيدية التى تحول دون انفراط الحزب وهو الأمر الذى لن يكون مستبعداً. أما التحدى الثانى فيتعلق بالحزب الجمهورى وفرص قبوله «مصالحة وطنية» مع الديمقراطيين والتخلى عن الرئيس دونالد ترامب ، وبالتحديد عن ما يمكن اعتباره المشروع السياسى للرئيس ترامب والقوى الاجتماعية: الطبقية والعرقية التى شكلت القاعدة الانتخابية للرئيس ترامب . لقد انقسم الجمهوريون مبكراً حول من يتعاطف مع موقف الرئيس ترامب الرافض للاعتراف بفوز بايدن ويدعمونه ومستعدون للخوض معه معركته الرافضة بنتيجة الانتخابات، وبين من قبلوا النتيجة وطالبوا الرئيس بالقبول بها واحترام الديمقراطية الأمريكية والتوقف عن التشكيك فى مؤسسات الدولة. هذا الحزب المنقسم على ذاته بين من هم جمهوريون تقليديون لا يختلفون كثيراً عن الديمقراطيين التقليديين وبين من هم شعبويون أو « ترامب يون» بمقدورهم إحداث انقسام تاريخى فى الحزب، ومن ثم الحيلولة دون نجاح مسعى بايدن للتوحد الوطنى الذى من المستحيل أن يتحقق دون توحد الجمهوريين وتجاوزهم العداوة والخصام مع الديمقراطيين . التحدى الثالث هو الأخطر وهو الأهم لأنه يخص واقع المجتمع الأمريكى وما يعانيه من انقسام واستقطاب غير مسبوق، وانتشار ظواهر غريبة باتت شائعة مثل ما يعرف ب «المقاطعات المغلقة» فى ظل تزايد ظاهرة ميل الأمريكيين لعزل أنفسهم فى «مجتمعات ذات تفكير مماثل اجتماعياً واقتصادياً وفكرياً بل وأيضاً عرقيا ودينياً، مع تراجع فرص الحراك الاجتماعى والمساواة الاقتصادية عكس ما كان فى العقود السابقة حيث امتلكت أقلية الجانب الأكبر من الثروة تدريجياً وبالتالى تدهورت أوضاع الأغلبية على مدى العقود الأخيرة، وهذا قاد إلى ما يسمى «جغرافيا السخط»، حيث نجحت ولايات ومقاطعات فى تدبير أمورها اقتصادياً فى حين عانت ولايات أخرى عنف التحولات الاقتصادية ما أدى إلى هجرة الكثيرين من الولايات الأفقر إلى الولايات الأوفر حظاً ومن قلب الفجوة الاقتصادية ولد الاستقطاب العرقى والسياسى. فمع انعدام الأمن الاقتصادى والخوف من الفقر والشعور بالغضب وفقدان المكانة الطبقية والاجتماعية أصبح «الخطاب القومى المغلق» حبل نجاة بالنسبة للكثيرين مع تنامى السخط من خطر «موت الحلم الأمريكى»، وهو السخط الذى عبر عن نفسه بقوة خلال المعركة الانتخابية، وسيبقى لفترة غير محدودة يمثل أخطر التحديات التى ستواجه مشروع جو بايدن ، فى تحدى المستحيل بعد كل ما حدث من بعثرة فى الروابط التى كانت تحمى الوحدة الأمريكية. نقلا عن صحيفة الأهرام