يوجِّه المسلمون عناية فائقة إلى الاحتفال بالذكرى السعيدة للمولد النبوى الشريف ؛ فيظهرون فى أيامها بهجةً شاملة، وسرورًا غامرًا، وينعمون فى لياليها الغراء بما يزكى أرواحهم وقلوبهم؛ شكرًا لله تعالى الذى تداركت عنايته ورحمته الواسعة الإنسانيةَ ب ميلاد نبي الرحمة ومنقذ الأمة النبى الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، المؤيد بالقول الصادق المبين: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]. ففى مثل هذه الأيام من شهر ربيع الأول ومنذ أربعة عشر قرنًا استنارت بمولد النبى محمد صلى الله عليه وسلم الأكوان، وتفتحت أبواب العدل والحق، وانبعثت محاور تزكية الإنسان من خلال الدلالة على القيم والأخلاق حتى تسترد الإنسانية مزاياها السليمة وخصائصها الصحيحة، وفى ذلك يقول الله تعالي: (هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ)... [الجمعة: 2-3]. نعم؛ إن ميلاد النبى الشريف يمثل دورة حياة جديدة للإنسانية ، فيها الربيع والنور وإحياء للحضارة وفق الأوامر الإلهية و القيم والأخلاق السامية، التى هى رأس كل خير فى الوجود، وأُساس كل عمران فى الدنيا؛ فقد جعل الله تعالى نبيه الكريم على خلُق عظيم، وجعل شريعته الغراء ترشد الناس إلى التحلى بالأخلاق الفاضلة على قدر الاجتهاد والاستطاعة البشرية، فأصل هذه الشريعة يدور حول إكمال ما تحتاجه البشرية من فضائل الأخلاق ومكارمها فى نفوس أفرادها ومجتمعاتها، كما أن الرسول "صلى الله عليه وسلم" هو النسق الأعلى والمظهر الأكبر لِما فى هذه الشريعة، امتثالًا لقول الحق سبحانه وتعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) [الجاثية: 18]، ولقوله عز وجل أيضًا: (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [الزمر: 12]. ولذا كان دستور النبي "صلى الله عليه وسلم" القويم وقانونه المستقيم فى بناء شخصية الفرد والمجتمع، وترسيخ قواعد الحضارة والعمران هو الامتثال لقول الحق سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90]، لما فيه من جوامع الأخلاق والقيم التى تجعل الإنسان ينزل منازل الأبرار ويلحق بمقاعد الصديقين والمصلحين من خلال التحلى بالخير والعمل والعمران، وحب الغير كحبه نفسه والتخلى عن الرذائل ومظاهر الشر والخراب، وفى ذلك يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ» (سنن ابن ماجه). فهذه المعانى تؤكد جملة المنافع والمصالح التى حصلت للإنسانية والمخلوقات من ميلاد النبى صلى الله عليه وسلم باعتباره سببًا ومظهرًا لحصول كل خير تغتنمه البشرية فى الدنيا والآخرة، خاصة هذا النموذج الإنساني الكامل المؤسس تأسيسًا عبقريًّا، والذى أشاد به المخالف قبل المحب، مما يقتضى بذل الشكر لله على نعمة رسوله نبى الرحمة صلى الله عليه وسلم بإظهار السرور والفرح بذكرى مولده العطرة بشتى المظاهر والأساليب المشروعة؛ امتثالا لقوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]. وفى ذكرى المولد النبوى الشريف يتلألأ اسم سيدنا محمد فى خواطر الجموع الغفيرة من أمته، وتعمر به قلوبهم، وتلهج بذكره والصلاة والسلام عليه ومدحه وقراءة شمائله وأخلاقه أفواههم وأرواحهم، فما أحوجنا إلى التأسي والاقتداء بهذا الرسول الأمين ذي الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم، مع الامتثال لشريعة الإسلام النقية من خلال التحلي بمكارم الأخلاق التى مظاهرها حسن التصرفات فى الأقوال والأعمال، والقيام بالواجبات، وأداء الحقوق تجاه الوطن والأهل والأسرة وسائر الأحوال، وما يترتب على ذلك من طيب السمعة وحسن الثناء، من أجل حياة كريمة وحرة وعفيفة بين الأمم. وكل عام ومصر بقيادتها وشعبها وجيشها وكذا الأمة العربية والإسلامية بكل خير. * نقلًا عن صحيفة الأهرام