ومن ديوان من نور الخيال وصُنع الأجيال في تاريخ القاهرة، نواصل الإبحار مع فؤاد حداد مُتَنَسِّمين الهواء البلْسَمِيّ الشافي الذي يحضننا من كل اتجاه ونحن نخوض في ذلك المَدَد الأزرق اللامنتهي، علي متن خيال الشاعر المسافر في تاريخ قاهرته المحبوبة ، في ثلاثين ليلة من ليالي الساهرة ذات المآذن الألف، علي أثير إذاعة البرنامج العام, بعد أن أفطر الشعب, في رمضان العام الهجري 1389 الموافق للعام الميلادي 1969، عام العيد الألف لميلاد القاهرة، القاهرة التي استفاقت من ذل الهزيمة وصممت علي القتال حتي النصر، وأقامت الاحتفالات بألفيتها رغم أنف الشانئين. وكان من وجوه ذاك الاحتفال وذلك التحدي هذا البرنامج الإذاعي الشعري الغنائي بقلم فؤاد حداد ولحن وغناء سيد مكاوي ، الذي نُشر بعد ذلك في ديوان بنفس العنوان: من نور الخيال وصُنع الأجيال في تاريخ القاهرة, وقال حداد في مقدمته: «هذا الديوان كُتب رداً علي النكسة. ومنذ القصيدة الأولي، أو الليلة الأولي من الإبحار في نور خيال فؤاد حداد وصُنع الأجيال في تاريخ القاهرة» يظهر بوضوح، وهو أمر جليّ علي امتداد الديوان كله، ذلك العزم علي عبور الوهدة وتذكير الأمة بعناصر القوة والرسوخ والجمال في تاريخها. ومن أجمل ما تولد عن ذلك التنقيب في منجم ذهب القاهرة الوجداني، الحوار العاشق بين المدينة وشاعرها، الذي يبدأ بكلام القاهرة، وفي أول بيتين من كلامها إشارة إلي من بنوها من ألف عام: ولما عرب الصحاري عمَّروا الحارة/ وأصبحوا في الغرام ع السطح بحّارة/ شُفتك يا شاعر تنشد المواويل/ شفتك وانا طالّة من المشربية/ شفتك في رايحاتك وجايّاتك/ إلف الحمام له غُيّة في التهليل/../ شفتك وجاتني من العيون مراسيل/ سمّعني سمْع هديل/ وتعالي قولي لي إن جفني كحيل/ ولا يستحيل/ من ألف عام أرجع علي نيّاتي/ من مشربياتي إذا طليت.. ويرد الشاعر علي فاتنته القاهرة، وقد أطلت له من مشربية خياله الشرقيّ, المفتون بزخرف الفن الإسلامي, وينعكس ذلك في قوافيه الطروب، كما سنري بالذات في الكوبليه الثاني من أغنيته للقاهرة التي يقول مطلعها: طليتي بشعور البنات الحور/ يا فجر متكحل بليل مسحور/ إنتي اللي حنت لك جبال وبحور/ الوعد وبْياتِك/ في مشربياتِك/ ريحة ماورد وجنة يا قاهرة.. ثم يأتي الكوبليه الثاني من أغنية الشاعر العاشق، والذي يحوي واحدة من أحلي تجليات لزوم ما لا يلزم في قوافي فؤاد حداد المبدعة: غاوي القمر، واللي غَوَي يشفيه/ صوتِك يلاغي والغوايش فيه/ طمنِّي قلبِك إني عايش فيه/ وشكرت آياتِك/ في مشربيّاتِك/ريحة ماورد وجنة يا قاهرة. القصيدة الثانية من الكتاب، بعنوان: الأرض بتتكلم عربي، تحوي أشهر أغاني حداد ومكاوي في تاريخ تعاونهما الفني، وتحوي أيضاً وصف صلاح الدين، ذلك الفارس الرمز، الذي كان يحتاجه وجدان الأمة في قيامها من الهزيمة: يا سامِعين أنباء بلد واحدة/ تحت السما الواحدة وياما جري/ مرت سنين ع الدنيا متقدرة/ الغرب سمّاها العصور الوسيطة/ ونظر وقال كان الزمن مُظلم/ أمّا الحقيقة البسيطة/ بتقول في دار الشرق/../ كان عندي فجر انشق/ نورُه في عين الجبارين مؤلم/ حتي إذا ما التقوا بالفارس المسلم/ عرفوا الحقيقة وعظموا فارس/ صلب القوام والدرع تحت العمامة/ حتي إذا ما/ نزل من السرج ونصب خيمته/ سهل الدموع إلا ابتسام الراضي/ مايل بجسمه لاستماع الأراضي/ وعلي العيدان الطرية/ إيديه نديّة كيف إيدين الغارس/ هذا الذي رد الثغور البهية/ وبني بأسماء الأئمة المدارس/ وأعاد إلي الأم الصليبية ابنها/ أما عن المنكر نَهَي ..ونواصل بإذن الله في السطور القادمة إبحارنا في المَدَد الأزرق، لنتنفس الجمال الشافي.