د. عبدالعليم محمد تواجه مصر تحديات غير مسبوقة, على الأقل فى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول والثانى من القرن الحادى والعشرين، تتعلق بأمنها القومى وأمنها المائى والوجودي، ولا شك أن تزامن هذه التحديات مع مطلع يوليو عام 2020، تهديد إثيوبيا بملء السد دون اتفاق مع دولتى المصب مصر والسودان وبإرادتها المنفردة، و التدخل التركى فى الشأن الليبى والضم الجزئى أو الكلى للأراضى الفلسطينية التى تزمع إسرائيل تنفيذه، وهذا التزامن ليس بريئا على ما يبدو, وفق ما ذهب إليه الصديق الدكتور محمد السعيد إدريس فى مقاله فى الأهرام «20/6/2020»، ذلك أن هذا التزامن يتوافق مع الذكرى السابعة لثورة الثلاثين من يونيو عام 2013 وخريطة الطريق التى أعلنتها مصر فى الثالث من يوليو من ذات العام. وبالرغم من تفاوت خطورة هذه التحديات، فإنها جميعا تتعلق ب أمن مصر القومى ومصالحها الاستراتيجية العليا، ولا شك أن المواقع الجغرافية المختلفة لهذه التحديات فى الجنوب سد النهضة وفى الغرب التدخل التركى فى ليبيا وفى الشمال الشرقى فلسطين إلا أن ذلك لا يفصل بينها ولا يمنع توحد المواقف والسياسات والفاعلين وراءها فى خلق هذه التحديات أمام مصر، وتعويق مسيرتها نحو البناء والتنمية والتصنيع واستعادة مكانتها الإقليمية ودورها الفاعل فى استقرار المنطقة، والتأثير فى مجريات الأمور فيها على نحو ما شاهدناه فى تحجيم الإرهاب وتجديد الخطاب الدينى ودحض أوهام الخلافة وحكم الإرهاب والمتطرفين دينيا. خلف هذه التحديات تقف إثيوبيا على رأس أخطرها ألا وهو التحدى المتعلق ب ملء خزان سد النهضة بطريقة أحادية دون اتفاق مع مصر والسودان، وتمارس تركيا سياساتها التوسعية فى ليبيا بعد أن مارستها فى سورياوالعراق، كما أن إسرائيل حاضرة فى جميع هذه التحديات إن عبر تفاهمات أو دون تفاهمات، فمصالحها تتمحور حول إضعاف مصر وتقليص دورها وتحجيم تأثيرها الدولى والإقليمي. والمفارقة أن تركيا حاضرة فى ملف سد النهضة وذلك بصرف النظر عن الاتفاقيات أو التفاهمات الرسمية مع إثيوبيا، أقصد أن حضورها قائم من خلال نموذج السياسات المائية التى اتبعتها وابتدعتها إزاء العراقوسوريا، فيما يتعلق بمشروعاتها المائية على نهرى دجلة والفرات وبالذات سد أليسو الذى افتتحته فى فبراير عام 2018 وبدأت ملء خزانه المائى فى 1 يونيو من العام ذاته، وهو الأمر الذى ترتب عليه إضرار بمصالح العراق المائية فى نهر دجلة وخفض حصته إلى 9.7 مليار م3 أى ما يشكل 47% من الإيراد السنوى المائى الطبيعى وما ترتب على ذلك من آثار خطيرة. تستلهم إثيوبيا القواعد والأسس التى بنيت عليها السياسات المائية التركية إزاء دجلة والفرات والعراقوسوريا، وهى القواعد التى تجافى روح الاتفاقيات الثنائية الدولية التى تتعلق بالأنهار أو روح اتفاقية الأممالمتحدة لعام 1997 حول الاستخدام غير الملاحى للأنهار الدولية، حيث تأسست السياسات المائية التركية على تسليع المياه، أى جعل المياه سلعة تباع وتشترى على غرار ما هو معمول به بالنسبة للنفط والغاز على حد تعبير بعض الساسة الأتراك منذ فترة طويلة لا نشارك العرب المياه كما أنهم لا يشاركوننا النفط، وكذلك اعتبار نهرى دجلة والفرات أنهارا وطنية وليست أنهارا دولية، أو فى أفضل الحالات أنهار عابرة للحدود، وهو ما يرتب السيادة التركية على منابع نهرى دجلة والفرات دون اعتبار للقانون الدولي، وتطبيقا لهذا الموقف لم توقع تركيا اتفاقية الأممالمتحدة للأنهار الدولية فى عام 1997. وعلى غرار تركيا التى التزمت واعترفت فى وثائق بينها وبين العراقوسوريا بأن أنهار دجلة والفرات أنهار دولية, إلا أنها فى الواقع والتطبيق لم تكترث بمثل هذه الوثائق ولم تضع فى اعتبارها سوى المصالح التركية، كذلك حاولت إثيوبيا التنصل من المعاهدات الدولية الموقعة بينها وبين مصر والسودان على مراحل تاريخية مختلفة، ومن بينها أحدث هذه الاتفاقيات وهو إعلان المبادئ عام 2015، وهو الأمر ذاته الذى قامت تركيا به أى التنصل من الاتفاقيات الموقعة مع سورياوالعراق باعتبار أنها اتفاقيات استعمارية. من ناحية أخرى وكما حاولت تركيا اللعب على الخلافات بين سورياوالعراق والتوترات بينهما، لم تأل إثيوبيا ورئيس وزرائها أبى أحمد جهدا فى فك الارتباط بين مصر والسودان. والحال أن إثيوبيا قد استرشدت بالسوابق المائية التى أرستها تركيا إزاء دجلة والفرات وسورياوالعراق، وهو الأمر الذى حفزها لتبنى سياسات التفاوض من اجل كسب الوقت، لإتاحة الفرصة لفرض الأمر الواقع على مصر والسودان كما أن إثيوبيا تسترشد بخبرة التفاوض الإسرائيلية التى تتلخص فى فرض الأمر الواقع ثم التفاوض من أجل التفاوض ويمثل الحضور الإسرائيلى فى سد النهضة عاملا مؤثرا من خلال تولى إسرائيل الإشراف على إدارة الكهرباء فى المشروعات الإثيوبية لو صحت الأنباء المتداولة وأيضا من خلال العلاقات الوطيدة لإسرائيل بإثيوبيا فضلا عن أن إسرائيل لها مصلحة فى إضعاف مصر والحصول على نصيب من مياه النيل، بيد أن القياس الإثيوبى لا يستند إلى معطيات حقيقية تأخذ فى الاعتبار أن مصر حالة مختلفة وأنها دولة قوية استطاعت بحكمة شعبها وقيادته من تجاوز العثرات وتجنب السقوط إلى حالة الفوضى واللا دولة. إزاء التعنت الإثيوبى تتحصن مصر بسلوك المسار الدبلوماسى والسياسى والقانونى والشرعية الدولية، من المفاوضات والوساطة واللجوء إلى مجلس الأمن وفق الفصل السادس الخاص بفض المنازعات التى تهدد السلم والأمن الدوليين بالطرق السلمية وهى تبدأ بالمفاوضات ولا تنتهى بها فثمة التحكيم وغيره من وسائل إنهاء النزاع، بيد أن سلوك مصر القانونى والسلمى والدبلوماسي، لا ينم عن ضعف أو خوف ولكنه التزام حضارى وسلمى دون تفريط فى حقوقها المائية أو التاريخية والقانونية، ولم تطالب مصر بزيادة حصتها المائية التى قدرت وقت أن كان عدد السكان 18 مليون نسمة والذين بلغوا الآن ما يفوق المائة مليون من السكان. فى مواجهة التدخل التركى كانت رسائل مصر قوية ورادعة، التمسك بالحل السلمى والسياسى للأزمة بين الفرقاء الليبيين وفق المبادرة التى أعلنتها والتى تشكلت حولها جبهة رفض دولية للتدخل التركى فى ليبيا من خلال إرسال الإرهابيين والمعدات لأحد الأطراف من فرنسا واليونان والعديد من الدول الأوروبية وروسيا والولايات المتحدةالأمريكية، وأخيرا حددت مصر خطا أحمر لا يجوز تجاوزه، والذى يعنى فى حالة تجاوزه أن التدخل المصرى الشرعى لن يتأخر وهو خط سرت - الجفرة فى الشرق الليبى وهو مستودع النفط والغاز الذى تطمع تركيا فى السيطرة عليه. ولا شك أن الترابط بين هذه التحديات لا يقتصر فحسب على الخلفيات والفاعلين، بل يتجاوزه إلى التأثير المتبادل الذى يتوقف على قدرة مصر على التعامل معها وقدرتها على تفكيكها وإفشال أهدافها، ونجاح مصر فى مواجهة التحدى فى ليبيا سينعكس إيجابيا على تشكيل موقف جديد من التحديات الأخرى وبخاصة الموقف من السد الإثيوبي، وقد أفضى الزخم الدبلوماسى والسياسى الذى أطلقته مصر إلى تحرك الاتحاد الإفريقى والاتفاق على تأجيل ملء خزان السد حتى إتمام اتفاق نهائى قانونى وملزم يضمن مصالح جميع الأطراف. نقلا عن صحيفة الأهرام