د. نوال السعداوي رأيت الشاب المصري، يمشى بقامته الممشوقة، فى حديقة الأطفال ، يحمل ابنه فوق صدره، مزهوا بالأبوة الجديدة، يتطلع الطفل بانبهار للدنيا، عيناه سوداوتان يكسوهما بريق مبهر، ملامحه مزيج مبدع من ملامح أبيه وأمه، يرث الأطفال الأذكياء أفضل الجينات من الآباء والأمهات والجدات والأجداد، انها نظرية الانتخاب الطبيعي، يختار الجيل الجديد من الجيل القديم، الأجمل والأرقى إنسانيا، هكذا يتطور علم الوراثة والبيولوجيا وخلايا المخ، كما يتطور علم الفلسفة والطب والأخلاق والأدب والثقافة. لم تعد الأبوة تعنى كيس فلوس للإنفاق على الأطفال والزوجة والأسرة، أصبح الحنان والحب ورعاية الطفل مسئولية الأم والأب معا، لم تعد الأمومة تعنى التفرغ لأعمال البيت والأطفال، والاعتماد على الزوج فى دفع المصاريف والنفقة، تتطور مفاهيم الرجولة والأنوثة والأبوة والأمومة وتتغير القيم الأخلاقية، بدأ الزوج يحترم العمل فى المطبخ ورعاية الطفل، ولم تعد الزوجة تخجل من دفع المصاريف والإنفاق على الأسرة، يواكب هذا التغير، فى العالم وفى بلادنا، تطور المخ والمجتمع. يؤدى الرقى الإنسانى المتزايد جيلا بعد جيل، إلى إلغاء الفواصل الحادة بين الرجولة والأنوثة، والأبوة والأمومة، لم تعد الشوارب والعضلات والصوت الخشن دليل الرجولة ، ولم تعد البشرة الملساء منزوعة الشعر دليل الأنوثة, لم يعد التفرغ بالبيت لرعاية الأطفال يعنى الأمومة، ولم يعد التفرغ للعمل خارج البيت يعنى الرجولة . رأيت فتاة مصرية ممشوقة القامة مثل زميلها، تواجه العالم بوجه سافر مثل وجهه،، تناقش زوجها، و زميلها بالعقل. أتساءل هل هذا الشاب المصرى، وهذه الفتاة المصرية، نماذج استثنائية فى الوطن، أم أنها القاعدة التى بدأت تفرض نفسها؟. مؤخرا، كنت فى زيارة لمدينة إستوكهولم، تشاركنى د . فكرية، صديقة من مصر، تعرفنا على أونى امرأة سويدية، كنا نتمشى نحن الثلاث فى حديقة متسعة، بجوار الفندق الذى أقمنا فيه، كانت الشمس ساطعة والجو رغم البرودة منعشا، والأمهات داخل الحديقة يلعبن مع أطفالهن، والأطفال سعداء كالعصافير، أصحاء، بوجوه متوردة كالزهو، بنات وأولاد، منهم من يمشى فوق قدميه مستمتعا بالقفز أو بالجري. رأيت شابا سويديا يحمل طفله فوق صدره، يمشى مزهوا بأبوته، لا يخجله أنه رجل وسط المربيات والأمهات وربات البيوت، وأنه يقوم بعمل لا يقوم به الرجال, رعاية الطفل، عمل خاص بالنساء، منذ نشوء الزواج والأسرة الأبوية، تأملته بدهشة فابتسم، وهز رأسه بالتحية، سألنى من أين؟. قلت مصر ، سألني: هل منظرى غير مألوف عندكم؟. لكن هنا فى السويد أصبح الأمر عاديا، وأنا أفضل اللعب مع طفلى تحت أشعة الشمس فى الهواء الطلق، عن قضاء النهار فى مكتبى المغلق الكئيب، بالشركة الصناعية التجارية، أقوم بعمل ممل متكرر كل يوم، يبعث على السأم والضجر والاكتئاب، وضحك الأب والطفل معا، وضحكت أيضا، وقلت: معك حق، لكن ألا تشعر بالحرج وأنت تقوم بعمل المرأة وسط النساء؟. ولماذا أشعر بالحرج يا سيدتي، بالعكس أشعر بالراحة والعدالة، لأن تقسيم العمل يجب ألا يكون على أساس الجنس، بل الرغبة الشخصية والإختيار الحر والكفاءة، ولأن أخلاق النساء أرق من أخلاق الرجال ، والحديث مع الأطفال يلهمنى أكثر من الحديث مع الكبار، الذكور ذوى السلطة، لا تتصورين سعادتى وأنا ألاعب طفلى وأشهد الفرح فى عينيه وهو يلعب معى ويجرى مع الأطفال ، وأسمع ضحكته الصافية النابعة من أعماق قلبه، وأسئلته الذكية عن كل ما يراه، إننى أتعلم من الأطفال يا سيدتي، وأرى ما لم أكن أراه من تناقضات الحياة، يلتقطها الطفل بذكائه الفطرى الحساس، لم يتبلد بالتعليم الرسمى والزيف اليومى الذى يعيشه الكبار. وقالت صديقتى السويدية: أوافقك تماما، وأرجو منك أن تشجع زوجى على هذا الدور الجديد للأب، لأن أغلب الرجال السويديين غير متطورين. ضحك الشاب وقال، أنا أعطى دروسا لزملائى الرجال فى الشركة، وأشرح لهم مزايا الأبوة الإنسانية الأرقي، وكيف نتعلم من الصداقة مع أطفالنا، ما لا نتعلمه فى حياتنا الذكورية المغلقة بالأنانية والتنافس والعنف. عدت الى مصر وبعد يومين هاتفتنى سناء، احدى أقارب د . فكرية ، تشكو زوجها الذى تشاجر معها شجارا عنيفا، بسبب غيابها أسبوعا بأكمله فى مؤتمر يتبع عملها، وتركته يرعى شئون البيت والطفلين الصغيرين، وقد صمم على ألا تسافر مرة أخرى، حتى وان اضطرت الى ترك العمل والتفرغ للبيت، قال لها مهددا بالطلاق: مراتى تسافر وتروح مؤتمرات وأنا أقعد هنا مع العِيال.. لا يا هانم دى مش شغلتى، دى شغلتك انت. نقلا عن صحيفة الأهرام