على وهج القيراط الأخير الذى تبّقى من شمعة ذِهني، والفتيل المشتعل كلما توهجّ أكثر ذاب الشمع بسرعة أكبر، وأحرقت دموعه الساخنة أصابع يُمناي، أكتب إليكَ، على الأوراق القليلة الباقية فى حوزتي، والعتمة حولى متراكبة راكمتها ليالى الأيام العشرين ألفا التى عشتها.. ومع ذلك، حين ألمح وجهكَ، تتبدد تحت شمسكَ الربيعية كل السحب السوداء المتلبدة تحت عظام الصدر، وتنتشر فى البدن الذى بدأ يشيخ نشوة طفلية، وفرحة عرضها السماوات والأرض تطيح بمحتويات الحجرة، وبالثقل الراسخ للوجود الجاثم على القلب، بحقائقه الثابتة المحبِطة، حين تبدأ أنت فى بعثرة الأشياء بيدك النونو، فى بهجة اكتشاف الأشياء لأول مرة ، وتدريب عضلات الذراعين حديثة التكوين، بينما قدماك تحملانك بالكاد، فى خطاك الأولى على هذه الأرض، ومشيتك المترنحة توحى بسكرة البراءة الطفلة، مع أن رأسك الكبير بالنسبة لجسمك الضئيل، يذكرنى كثيراً برأس أبي، خصوصاً حين أنظر وجهك من الجانب، فأرى رسمة بروفيل الوجه والرأس، والشفة العليا البارزة قليلاً، فكأنى أراه، ولكن فى نسخة مصغرة عشرات المرات. وحين تمشى على رءوس أصابع القدمين، وأنت بعدُ لم تتعلم المشي. تذكرنى تلك الخفة بذلك الرجل الذى جاء بى للأرض، والذى كانت رشاقة روحه تحمله جسده الثقيل إلى فوق، بحيث لا تتماس مع أديم الأرض إلا أظافر قدميه, كأنه راقص باليه، ولولا أنه كان يحب الناس ولا يقوى على فراق العشب والأشجار لطار. وبعد أن استدعته السماوات العلي، فصعد إليها، جئت أنت بملامح من جسده وروحه، فكانت كلمتك الأولي، بعد بابا وماما، كلمة وردة, ثم أعقبتها قمر، حين نظرتَ لسماء الليل لأول مرة فشدك القمر, البدر أو الهلال، ونظرت لأبيك مندهشاً مشيراً إلى السماء قائلاً: ده؟ فعلمك أبوك الكلمة. ومن يومها وأنت تطلب منه أو من ماما أن يذهبا بك إلى الشباك فى الليل، لتشير إليه مفتوناً قائلاً: أمل!. أخاف عليك من تلك الرقة. حفظك الله أيها الجمال البكر , أيها الصباح النديّ المبكر. أكتب إليك، وقد عشتُ أنا من الليالى عشرين ألف ليلة وليلة، وأصبحتُ شهرزاداً من الحواديت التى لا أستطيع أن أقصها عليك. أخشى عليك من ذئب الحواديت، فلا أحكي، وأتركك لتحيا أنت حكاية أجمل، ثم تحكيها لأحفادك. لقد أشعلتَ يا حبيبى ليلة أمس للحياة شمعتين، فى عيد ميلادك الثاني. ولم أكن معك، لأن ذئب الليل الجديد الذى لا يُري, ويحمل اسماً بريئاً كالحلوى ( كورونا) لكنه شرس وشرير، ذلك الذئب، اللص الذى يخطف الروح، يتربص بالطرقات، خاصة فى الليل. لكن بابا وماما أرسلا لى صورة لك وأنت تنفخ فى شمع التورتة، فباركتك عيوني، ودعا لك قلبي، أن يحفظك الله قرة عين لنا ولوالديك. سَنة حلوة يا جميل، بل سنين وأيام كثيرة حلوة، ولتكبر فى ظل الحب، لتصير شجرة، جذعها ثابت وفرعها فى السماء. فلنعلِّم أطفالنا وأطفال أطفالنا جيداً، فالعلم هو قارب النجاة, هو فُلك نوح الذى ينجينا من الطوفان. فبالعلم يستطيع أبناؤنا أن يجدوا الترياق بإذن الله، ويداووا أدواءنا التاريخية المتوارثة، وأن يهزموا أنواء الحياة بسفائن من صُنعهم، فلا نظل مرتهنين لما يسمح به الآخر أن نستورده منه؛ وأن يبدعوا هُم حكاياتهم الخاصة، حكايات ينتصر فيها أبناء الشرق على الجن والعفاريت والذئاب والغيلان، ويجعلوا من عقولهم بساط ريح يحملهم إلى الهناء، ويعلو بهم على العناء، ورُخّاً يطير بنا بعيداً عن وهدة اليأس، ويعبر بنا هوة التخلف.. هذه وصيتى لك يا نوح يا حبيبى فى عيد ميلادك. نقلا عن صحيفة الأهرام