لا أستغرب كثيرًا وصف كثير من الزملاء والقراء الأعزاء عالم الغد وتكنولوجياته، بعد 20 أو 30 عامًا، بأن ذلك وحي من الخيال أو استشراف لمستقبل مجهول.. فجميعنا بالطبع معذورون فيما نقرأ ونسمع، لكن من يمرر شريط حياته مع التكنولوجيا أو على الأقل فيما يخص هاتفه المحمول في خلال عشر سنوات مضت، لا ينبغي أن يستغرب ما يمكن أن تؤول إليه تكنولوجيا السنوات القادمة.. فمثل هذه التصورات للمستقبل يجري العمل عليها ليل نهار بجيوش جرارة من العلماء والباحثين وأصحاب الأفكار والمخترعين، وهناك دراسات كثيرة وفيديوهات علمية تُعزز ذلك وتقدم الدليل المُقنع، بأن ما يخططون له وما يسعون لابتكاره سيصبح حقيقة لا خيالا.. لا جدال أن التقنيات الذكية ستطال كل مجالات الحياة، لكنها لن توفر بالكلية الحياة "الوردية" التي نظنها جميعًا وتجعل بعضنا يعض أصابع الندم متمنيًا أن يعش هذا الزمان. والمؤكد أن هذه "الحياة" ستكون لها فاتورتها المؤلمة صحيًا وبيئيًا واقتصاديًا وبالطبع اجتماعيًا، وستدفعها غالبًا الشعوب التي تحيا على فتات تكنولوجيا الغرب.. ففي "المدن الذكية" يتوقع العلماء عام 2050 أن تعج السماء حينها بالطائرات الصغيرة المستخدمة لتوصيل الأطعمة والمنتجات إلى الزبائن، ويتوقعون أن تكون أبنية هذه المدن عبارة عن أيقونات زجاجية كالفولاذ تعمل جميعها ضمن مركز إدارة واحد يتحكم فيه حاسوب مركزي، يرصد كل شيء في جنباتها، وكأنه حلم من الواقع الافتراضي.. لا غرابة في ذلك، ونحن نشاهد ونسمع ونرى في بلادنا، كيف يتنافس الأثرياء للسكن في منتجعات توفر مزايا أمنية وتقنية وترفيهية غير معهودة من قبل، فكيف لنا ألا نتصور شكل هذه المدن بعد 20 أو 30 عامًا، ليس في مدن الغرب الذكية، بل حتى في عالمنا.. في عام 2050، سيصبح مشهدًا مألوفًا أن ترى الروبوتات في المطاعم والمتاجر والعيادات الطبية وربما المطارات وأجهزة الأمن، وستجد لها من يدافع عنها من بني البشر ويقر بأن لها حقوقًا ينبغي مراعاتها..إنه عالم سيسوده البشر والروبوتات على حد سواء.. في 2050 يتوقع العلماء أن يبدأ الطب في جني ثمار عصر الطفرة العلمية، فالأمراض التي أودت بحياة الملايين في القرون الماضية، كالسرطان والإيدز، ستصبح مجرد نزلة برد أو سعال، هكذا يتصور العلماء، وحتى التصلب المتعدد MS، الذي يصيب الجهاز العصبي المركزي ويؤثر على الدماغ والحبل الشوكي ولا علاج شافيًا له حتى اللحظة، قد يصبح من أمراض الماضي.. أيضًا الإعاقة لن تعد مشكلة كبيرة، فمع تطور عمليات زرع الأعضاء، بما فيها العيون الإلكترونية لفاقدي البصر وأصحاب الإصابات، وستؤمن الأطراف الصناعية للبشر أشياء لم يحلموا بها من قبل، بما فيها القدرات الفائقة.. ففي عام 2050، وبفضل نظام الطباعة ثلاثي الأبعاد، سيصبح بإمكانك صناعة طرف يناسبك تمامًا، من خلال محاكاة أبعادك بدقة فائقة، وعمل هذا الطابعات لن يقتصر على المجال الطبي فقط، بل ستمتد نحو طباعة الملابس الجاهزة والأدوات والمنتجات الصناعية والهندسية، بما في ذلك طباعة "أعضاء طبق الأصل" منك، إن طباعة أو استنساخًا كاملًا، وهو ما جسده بصورة لم استغربها أبدًا أحد أفلام الخيال العلمي "ذي إيلاند" أو الجزيرة. لا ينبغي أن نستغرب حدوث ذلك، إذا تذكرنا كيف كان الوضع الصحي في العالم وكيف أصبح، فيما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر مات نصف أطفال مصر بسبب الحصبة والجدري، والطاعون حصد أرواح ملايين في الشام وأوروبا، وشلل الأطفال كي يصبح من الماضي تطلب رئيسًا أمريكيًا مصابًا به هو فرانكلين روزفلت والذي سخر سنوات ومليارات لاكتشاف تطعيمه، والإسهال كان أكثر سبب للوفاة في العالم.. لكن التطور التكنولوجي في المستقبل، سيكون له تداعيات سلبية كبيرة، إذ سيوفر أكبر قدر من المراقبة الحكومية وأجهزة الرصد؛ إما عن طريق شرائح مجهرية تُدمج في جسم الإنسان لتوفر وسيلة للتحكم والمراقبة، إلى جانب أجهزة تصوير مُصغرة وكاميرات مراقبة في الشوارع لدواع أمنية بالطبع، والتي تعج بها كل عواصم ومدن العالم حاليًا، حيث يُباع حاليا 106 ملايين كاميرا فيديو للمراقبة سنويًا، أي أنه ببساطة سيكون عام 2050 النهاية الرسمية للخصوصية، وحتى في أيامنا هذه لم يتبق الكثير لتتحقق نبوءات رواية جورج أورويل "1984" !!! والعيون ستكون العضو الأكثر تضررًا من تكنولوجيات المستقبل، إذ تحذر دراسة من أن 5 مليارات إنسان، سيعانون ضعفًا في النظر بحلول 2050، وواحد بين كل 5 ممن سيضعف نظرهم قد يصاب بالعمى الكامل، ففي دراسة نشرتها مجلة Ophthalmology فقدان النظر بسبب ضعف البصر سيتضاعف 7 مرات، بين عامي 2000 و2050، ليصبح بذلك واحدًا من الإشكاليات الصحية الكبرى في العالم.. ويعزز من هذه المحاذير ما انتهى إليه باحثون من معهد برين هوزون في أستراليا بأن نمط الحياة العصرية سيهدد النظر بشكل كبير، بسبب الحواسيب والرقائق الإلكترونية بالإضافة إلى النظر بتركيز عال في شاشات الهواتف الذكية.. لكن أكبر خسارة ستتعرض لها البشرية برأيي في هذا الزمان، فضلا عن فقد الخصوصية إلى غير رجعة، أن الزمان لن يكون إنسانًا!!