يقول البريطاني كولن ولسون في كتابه "اللا منتمي": "اللا منتمي هو الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية، وهو الذي يشعر بأن الاضطراب والفوضوية أكثر عمقًا وتجذرًا من النظام الذي يؤمن بهِ قومه". كما يؤمن ولسون بأن الجو الذي يتميز به عالم "اللا منتمي" المعاصر جو كريه جدًا، وهم لا يرفضون الحياة فحسب؛ بل يُعادونها، فعالمهم مجرد من القيّم، ويصف ولسن "اللا منتمي" بأنه "ليس لديه شيء من النبوغ، لا غاية يحققها... وهو لا يكترث للدين". يتناول هذا الكتاب، الذي صدر عام 1956، واحدة من أهم مشكلات العصر؛ وهي طبيعة (الإنسان اللا منتمي)، الإنسان الذي لا ينتمي إلى دين ولا حزب، الإنسان الذي يختار طريقًا مظلمًا في الحياة، لكنه على حد وصف ولسون "يدعي أنه هو وحده الذي يستطيع أن يرى... ويرد على من يتهمه بالمرض بالقول: "الأعور في بلد العميان ملك". هذا لسان حال مروجي هذا المفهوم الذين خرجوا علينا مؤخرًا بأعداد هائلة يحاولون ترويج أفكارهم تحت مسميات وذرائع عديدة، ما بين التحضر والتمدن والحرية، وحتى الوصول لدولة مدنية، ويبثون رسائلهم من كل حدب وصوب؛ على الشبكات الاجتماعية ومن خلال الإعلام والفن وغير ذلك. والمسألة ليست في ما إذا كانت أفكارهم اللا منتمية صحيحة أم لا؛ بل في الوسائل التي يلجأون إليها لترويج هذه الأفكار، فنجدهم مثلًا يشنون حملات شرسة على الدين الإسلامي، والعادات والتقاليد المصرية؛ بل مؤسسات الدولة، ويتعمدون الحديث عن مسائل شائكة وحساسة، وكأنهم يقصدون استفزاز المجتمع، ولا يكتفون بذلك؛ بل يتحدثون بنبرة استعلاء وكأنهم هم النخبة المثقفة المطلعة التي جاءت لتحرر المجتمع من براثن الجهل والقمع الذي من رأيهم فرضته علينا "هويتنا" و"ديننا". وتستند هذه الأفكار إلى مهاجمة الثوابت في أي مجتمع؛ فمثلاً نجد دعوات لاحتضان أصحاب العقائد البعيدة عن الرسائل السماوية، أو التخلي عن النصوص الدستورية المتعلقة بالدين، وعدم الرجوع إلى الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بإتمام الزواج أو توزيع الإرث. وتكمن خطورة هذا الفكر في أنه يحمل في ظاهره محاربة التناقضات التي تضرب بعض أرباب الشهرة وإظهار خلل تغلغل في أعماق مجتمع هش، بينما في مضمونه يسعى لدغدغة مشاعر الجماهير تجاه بعض القضايا التي يحاول البعض إثارتها لتفكيك كيان المجتمع. بل الخطر الأكبر الذي يمثله هذا التوجه هو أن ضحاياه الأكبر هم من الشباب؛ فما بين مطرقة تقاعس النخب السياسية والثقافية عن الدفاع عن قضايا لطالما شكلت جزءًا لا يتجزأ من هويتنا، وسندان تسونامي الثقافة الغربية الذي اجتاح بلادنا، تنشأ الأجيال الجديدة متخبطة ودون فكرة واضحة عن هويتها وثقافتها وتاريخها؛ ومن ثم تجد صعوبة في التمسك والشعور بالانتماء للوطن والدين والحضارة والثقافة. وما زاد الطين بلة الفجوة الهائلة بين هذه الأجيال الشابة والأجيال الكبيرة ومؤسسات التعليم والدولة ورجال الدين الذين لا يعيرون لعامل الهوية والثقافة اهتمامًا، ولم يفكروا أنه قد يكون إحدى ركائز التنمية. وتُرِكَت هذه الأجيال الشابة وحدها في مهب رياح من كل حدب وصوب؛ ما بين ثقافة غربية كل ما بها متاح، وحركات اللا انتماء، وأفكار مشوهة عن الدين والدولة، وحرية لا محدودة ونافذة إلى العالم غير "مفلترة" أتاحها الإنترنت. علينا إذن أن نتحرك سريعًا لمجابهة هذه الأفكار؛ إذ أثبتت النظرية "البنائية" واتجاهات كلاسيكية حداثية حول تحديد الواقع، جوهرية تأثير "الهوية" على طريقة استجابة الدول السياسية وبنائها لمؤسساتها وإدراكها مصالحها. وإن كانت هذه الأفكار والدعوات تنم عن شيء، فإنما تنم عن جهل واضح بحقيقة الدين الإسلامي والهوية المصرية، فمصر لها طبيعة وحضارة وهوية خاصة؛ إذ تعاقبت عليها عصور مختلفة، بدايةً من العهد الفرعوني، ثم البطلمي والروماني والبيزنطي، والأموي والعباسي والفاطمي، وصولاً إلى الدولة المعاصرة. مصر غنية التاريخ والتراث والهوية؛ وأثبت شعبها على مدى العصور قدرته على التسامح والتعايش السلمي بين أديان وثقافات مختلفة، علينا أن نتقبل ونفتخر بكافة جوانب تاريخنا وثقافتنا، وعلى الدولة أن تسعى للتركيز على تعزيز روح الانتماء والفخر بالهوية والأرض. إن الحرية والتطور والانفتاح على الثقافات الأخرى لا يعني بالضرورة التخلي عن هويتنا أو ديننا أو نبذ تاريخنا؛ لأننا سنصير حينها متخبطين ولا منتمين. - بالاتفاق مع "معهد الأهرام الإقليمي للصحافة"