مهنة قاسية على الإنسان أن يجر أدوات التنظيف، ويسخر فوق نصف يومه لتجميل الأرصفة والطرقات والمؤسسات ورفع القاذورات ليمر الناس بسلام على المكان فيجدوه نظيفًا جميلًا طيب الأثر، ومن ثم يستشعرون الراحة النفسية. أما عامل النظافة فينطوي في طرف اليوم على حزنه وانكساره إذ يحصد مقابل عمله الشاق تكبرًا واستعلاءً من البعض الذين يرون أن عمال النظافة خلقوا لالتقاط مخلفاتهم وليسوا أناسًا مثلهم لديهم قلوب تستشعر الإهانه وتنكسر للسلوك السيئ وتبكي لافتقاد الكلمة الطيبة. سلوكيات سلبية كثيرة وسيئة يعاني منها عمال النظافة من بعض المواطنين إن لم تكن في المعاملة نجدها في المهنة ذاتها، فحسب روايات عمال نظافة ل"بوابة الأهرام" أشار أحدهم إلى التضرر من وجود الزجاج داخل المخلفات، كما أشار آخر إلى الطعام المهدر قائلًا: "أكل كتير بنشوفه مرمي بيخلينا نحزن لأننا مش لاقيين اللقمه"، وأشارت أخرى إلي ضعف الراتب الذي يصل إلى نحو 25 جنيهًا في اليوم تلك الجنيهات التي لا تسمن ولا تغني من جوع قائلة: "بحلم بمعاش يسترني" ارحموا انحناء ظهورنا علي أحد أرصفة منطقة بين الثريات يقف نجاح عبدالسلام 54 عامًا ينحني على الأرض لحمل المخلفات، ثم يستقيم لوضعها في صندوق القمامة الذي يبعد عنه مترًا ومع كل مرة ينحني فيها عم نجاح يمسك بمفاصل قدميه ليقوى على الانحناء الذي يتكرر مع كل ورقه أو منديل ملقى على الأرض. بملامحه المجهدة وتجاعيد وجهه.. قال الرجل الخمسيني ل"بوابة الأهرام" إنه يأتي كل صباح من كرداسة لتنظيف شوارع المنطقة وينهي عمله في الثانية بعد الظهر ليعود إلي منزله وكل ما يشغل تفكيره أثناء العودة هو رؤية السرير ووضع جسده النحيل على الفراش لعل آلام المفاصل التي أجهدت قدميه مع كل مرة ينحني فيها لجمع القمامة من الأرض تستريح ليستجمع عم نجاح قوته لصباح اليوم التالي، ويبدأ رحلة كل يوم "تنظيف شوارع بين الثريات" يتوقف عم نجاح لحظات عن الحديث ويخفض برأسه إلى الأسفل، ثم يشير إلى قدميه قائلًا: "أعصابي بتوجعني من التوطيه" مناشدًا المواطنين بوضع المخلفات داخل صناديق القمامة بدلًا من إلقائها على الأرض. سلوك صادم وعلى أحد أرصفة حي الدقي يقف شعبان علي 53 عامًا ممسكًا ب (مقشه وجاروف) تلك أدوات رزقه وتراقبه عيون "بوابة الأهرام" فبعد أن انتهى من حمل القمامة من الأرض وتنظيف الشارع أخذ يخطو نحو مقهي تبعد عن الرصيف الذي يقف عليه نحو ثلاثة أمتار ثم أسند بظهره إلى حائط المقهي مستظلًا بسقفها من أشعة الشمس المتعامدة عليه. وبنبرة متضررة عبر عن استيائه من بعض السلوكيات التي يتعرض لها يوميًا فقال ما يؤلمني ويؤذيني هو سلوك البعض الذين لا يقدرون كم أنفقت من جهدي وصحتي لرفع القمامة من على الأرض ووضعها في الصناديق المخصصة لها . الرحمة حلوة يلتقط شعبان أنفاسه ثم يخرجها ببطء ملحوظ وكأنه يخرج معها المواقف السيئة التي يتعرض لها أثناء عمله فيقول متذكرًا أحدها إن شابًا في العشرينيات يحمل كتبًا يبدو أنه طالب جامعي ألقى منديلًا على الأرض بعد أن استخدمه على الرغم من أن صندوق القمامة يبعد مترًا واحدًا عنه وعندما قال له: "ليه كده.. ليه ترميه على الأرض وبينك وبين الصندوق خطوتين" صدمه الشاب قائلًا: "دي شغلتك.. شغلتك تشيلها من الأرض". لم يطلب شعبان شيئًا من "بوابة الأهرام" حتى إن المحررة سألته: إذا توافر لك معاش هل تترك المهنة وتستقر بمنزلك؟ فجاء الرد: "أنا راضي باللي قسمهولي ربنا من الشغلانه بس الناس تحس بينا وبتعبنا"، وناشد المواطنين بالرحمة في التعامل مع عمال النظافة، والتفكير قليلًا قبل إلقاء المخلفات في الشوارع والطرقات قائلًا: "الرحمة حلوة" طعام مُهدر أما سعد عبدربه 59 عامًا فاستقبل "بوابة الأهرام" بابتسامة تشع منها حرارة الترحيب والرغبة في الحديث، وكأن لديه رسالة يريد إيصالها، وهو ما حدث بالفعل فقال إنه يعمل بمهنة النظافة منذ أكثر من 10 سنوات، لكن أماكن عمله هي التي اختلفت من منطقة إلى أخرى حتى استقر في منطقة المهندسين، وفي لحظة تغيرت تعبيرات وجهه المتفائل إلى وجه يحمل شكوى مؤلمة فقال إنه يستطيع وصف المواطنين من خلال أكياس القمامة التي يجمعها كل يوم من أمام منازلهم، فهناك أغنياء مسرفون، وهناك أغنياء مقتصدون. وبلهجة غلب عليها الحرمان قال عم سعد إن أكثر ما يؤلمه في مهنته عندما يجد طعامًا بلا حدود في أكياس القمامة وضعته ربة المنزل أو ربما وضعته الخادمة، لكن هذا الطعام يصلح لأن يسد جوع إنسان؛ حتى إنه في إحدى المرات لم يكن في جيبه سوى جنيهين فقط، وكان مضطرًا لعدم صرفهما ليتمكن من دفع أجرة الميكروباص الذي ينقله من جامعة الدول إلى إمبابة محل إقامته، وفي نفس الوقت كان الجوع يضرب بمعدته وتمنعه كرامته من التسول أو طلب الحاجة فقام بالتقاط بعض قطع اللحم المطهي من أكياس القمامة لإحدى الشقق التي وصف أصحابها ب"المسرفين". لم تنته رحلة "بوابة الأهرام" مع عمال النظافة ففي جولتها داخل محطات مترو الأنفاق رصدت ابتسامة عم مسعد الذي يمسك باليد اليسرى (مقشة وجاروف) وباليد اليمني يجر كيسًا يجمع فيه مخلفات الركاب من على مقاعد الانتظار ورصيف المحطة . الإيد البطالة بالحديث مع عم مسعد عن المهنة وأكثر ما يضايقه فيها قال إنه سعيد بعمله وراض إلى أبعد حد؛ لكنه أشار إلى بعض المضايقات التي تواجهه وزملاءه أثناء العمل فقال إنهم عندما يريدون الانتقال من رصيف إلى رصيف آخر لجمع المخلفات وتنظيف المكان يجبرهم بعض موظفي المحطة المسئولون عن ماكينة المرور بالتوجه إلى شباك التذاكر ودفع ثمن تذكرة للسماح لهم بالمرور إلى الرصيف الآخر وهو ما يكلفهم ماديًا: "إحنا بنعدي الرصيف التاني علشان ننضفه حرام تدفعني تمن تذكرة". وبابتسامة هادئة لم تفارق وجهه منذ بداية الحديث قال عم مسعد الذي يأتي صباح كل يوم من القناطر الخيرية إلى منطقة وسط البلد أنه موظف بالمعاش: كنت باخد 7 جنيه في 72 وجه السادات زودهم ل 9 جنيه "لافتًا إلى أبنائه؛ حيث لديه 3 أبناء أحدهما محام والآخر مسئول بإحدى الشركات الشهيرة ويتقاضي عم مسعد من عمله بالنظافة 700 جنيهًا وطلب منه أبنائه الجلوس في المنزل إلا أنه يرفض بشده قائلًا: "أنا عندي آخد مرتبي وأصرفه على أحفادي ولا أقعد في البيت من غير شغل"، وتابع بابتسامته الهادئه: "الإيد البطالة نجسة"، لكنه أشار إلى زملائه المحتاجين مطالبًا بإلقاء نظرة على رواتب عمال النظافة داخل محطات المترو التي لا تتعدى 700 جنيه. زجاج وآلات حادة وفي المعادي قال صالح عبداللاه 60 عامًا إنه يخلص في عمله ويرضي ضميره إيمانًا منه بأن العمل عبادة إلا أن هذا العمل تسبب في جرح يده مرات عديدة؛ حيث يفاجأ أثناء جمع القمامة بوجود زجاج متكسر، وبعض المواد المعدنية الحادة دون وضعها في علبة مغلقة، ولا يشعر بوجودها إلا بعد تمكنها من جرحه وإصابته؛ مناشدًا السكان بعدم وضع الزجاج والآلات الحادة بطريقة عشوائية حتى لا يتضرر عمال النظافة أثناء جمع القمامة. رباب: بحلم بمعاش يسترني وفي 6 أكتوبر تقوم رباب جمال الدين بتنظيف شوارع المنطقة مقابل أجر زهيد لا يسمن ولا يغني من جوع؛ حيث تتقاضى 25 جنيهًا في اليوم، وبسؤال "بوابة الأهرام" أين زوجك؟ قالت رباب إنه توفي منذ عام 2015، وترك لها 3 أبناء ولولا مسئولية تربيتهم وتلبية طلباتهم ما لجأت لهذه المهنة القاسية. بكت رباب علي سوء وضعها المادي الذي اضطرها للعمل في النظافة تلك الفرصة الوحيدة التي وجدتها للرزق فهي أمية لا تجيد القراءة والكتابة ولا تتقاضى معاشًا عن زوجها؛ حيث لم يكن موظفًا، وإنما كان يعمل باليومية، وبعثت برسالة لوزارة التضامن الاجتماعي من خلال "بوابة الأهرام" قائلة: "بحلم بمعاش يسترني"، وتابعت في انكسار: "تعبت والله ونفسي ارتاح". "عمال النظافة" للمواطنين: ارحموا إنحناء ظهورنا