"اجتازت مصر فترة عصبية في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش وتسبب المرتشون المغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين وأما فترة ما بعد هذه الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد وتآمر الخونة على الجيش وتولى أمرهم إما جاهل أو خائن أو فاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم"، كانت تلك الكلمات التي صدح بها الرئيس الراحل محمد أنور السادات مقدمة لعهد جديد للبلاد. ولم تكن ثورة 23 يوليو لعام 1952، التي قادها مجموعة من الضباط المصريين الشبان، وترأسهم اللواء محمد نجيب، مجرد حركة خرجت من رحم الجيش المصري، لتصحح المسار، بل كانت بمثابة ثورة الخلاص، من الظلم والاضطهاد الذي تعرض له الشعب المصري عبر عقود طويلة من الزمان، ما بين عهد ملكي استباح الدولة وثرواتها واحتلال إنجليزي كتبت نهايته ما إن طفا نجم الضباط الأحرار، وتحقق الجلاء عن مصر على إثرها بسنوات قليلة. ولم تكن انتكاسة حرب 1948 و ضياع فلسطين في مهد الاستيطان اليهودي وفضيحة الأسلحة الفاسدة، وعوامل اقتصادية واجتماعية أخرى بينها البذخ الذي كان يعيش فيه الملك وحاشيته في مقابل معاناة من قبل شرائح غفيرة من المصريين، إلا مقدمة لغليان داخل الجيش عبر عنه أبناؤه من خلال تنظيم "الضباط الأحرار" بزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. كان المشهد الداخلي قبيل الثورة يعاني سوءًا في الحالة الاقتصادية، وانتشار الظلم وفقدان العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب وسوء توزيع الملكية وثروات الوطن، والتعامل مع المصريين على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية ذلك لاقتصار الوظائف والتعليم العالي على أتباع الإنجليز والملك، ما جسد حالة موحشة داخل المجتمع لذا كان الحراك ضروريًا واختيار اللحظة الحاسمة لتحقيق الهدف المنشود وهو إزاحة الملك. وفي صبيحة 23 يوليو، نجح الضباط الأحرار في السيطرة على الأمور في البلاد، وأذيع البيان الأول للثورة بصوت الرئيس الراحل أنور السادات الذي قال فيما نصه: "اجتازت مصر فترة عصبية في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش وتسبب المرتشون المغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين وأما فترة ما بعد هذه الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد وتآمر الخونة على الجيش وتولى أمرهم إما جاهل أو خائن أو فاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم ولابد أن مصر كلها ستلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب اما عن رأينا في اعتقال رجال الجيش السابقين فهؤلاء لن ينالهم ضرر وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب وإني أؤكد للجيش المصري أن الجيش كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور مجردا من اية غاية وانتهز هذه الفرصة وأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة بأن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف لأن هذا ليس في صالح مصر وأن أي عمل من هذا القبيل يقابل بشدة لم يسبق لها مثيل وسيلقي فاعله جزاء الخائن في الحال وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاونا مع البوليس وأني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم ويعتبر الجيش نفسه مسئولا عنهم والله ولي التوفيق اللواء أركان حرب محمد نجيب". وعلى إثر ذلك الخطاب، فرض الجيش على الملك فاروق الأول، التنازل عن العرش لولي عهده الأمير أحمد فؤاد و مغادرة البلاد في 26 يوليو 1952 وشكل مجلس وصاية على العرش ولكن إدارة الأمور كانت في يد مجلس قيادة الثورة ثم ألُغيت الملكية وأعلنت الجمهورية في 1953. ما ميز هذه الثورة، بأنها كانت ثورة بيضاء، لم ترق فيها الدماء، الأمور سارت كما يرام دون مواجهات كانت متوقعة، فيما قُوبلت بترحيب شعبي جارف من ملايين الفلاحين وطبقات الشعب العاملة الذين كانوا يعيشون حياة تتسم بالمرارة والمعاناة، وانحازت الثورة في قراراتها التي جاءت تدريجيًا للشعب ولطبقاته المطحونة، فعملت على الوقوف بجوارهم واتخاذ كل ما يصب في الصالح العام للدولة المصرية وأبنائها. عملت الثورة على القضاء على الإقطاع وأنزلت الملكيات الزراعية من عرشها، وأممت التجارة والصناعة التي استاثر بها الأجانب، كما عملت على إلغاء الطبقية بين الشعب المصري وأصبح الفقراء قضاة وأساتذة جامعات وسفراء ووزراء وأطباء ومحامين وتغيرت البنية الاجتماعية للمجتمع المصري، كذلك قضت على معاملة العمال كسلع تباع وتشترى ويخضع ثمنها للمضاربة في سوق العمل، وحررت الفلاح بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وقضت على السيطرة الرأسمالية في مجالات الإنتاج الزراعي والصناعي، وفرضت مجانية التعليم. من بين القرارات الهامة التي أعقبت تلك الثورة وكانت من أهم نتائجها هو قرار تأميم شركة قناة السويس، لتصبح شركة مساهمة مصرية، كذلك تحرير مصر من قبضة المحتل الذي جثم على صدرها لنحو سبعة عقود من الزمان، من خلال توقيع اتفاقية الجلاء والتي بمقتضاها خرج الإنجليز من مصر، كما نجحت ثورة يوليو في لم شمل العرب والعمل على تحقيق مفهوم وحدة الصف العربي وإرساء القومية العربية. وساند الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حركات التحرر العالمي، وكانت مصر يشار لها بالبنان في هذا الشأن رغم ما كانت تعاني منه من بعض الأزمات الاقتصادية، وامتناع الدول الكبرى عن تمويل مؤسساتها وتدشين بنية تحتية لها، لكن هذا الأمر لم يعق الرئيس عبدالناصر من الاستمرار في دعم حركات التحرر. وكانت حركات المد القومي العربي، التي أرساها الرئيس عبدالناصر، تستهدف الوحدة العربية فدخل في وحدة مع سوريا والتي تعتبر الفريدة من نوعها في تاريخ العرب المعاصر خلال الفترة من عام 1958 إلى عام 1961، كما كان لمصر دور كبير في مساندة جبهة التحرير الجزائرية و ثورة اليمن ضد الحكم الملكي، التي تدخلت فيها مصر بقواتها العسكرية. و من بين أهم منشآت الثورة، هي بناء السد العالي، الذي كان بمثابة معجزة حقيقية في وقتها، حيث كان لهذا السد الفضل في حماية مصر من الفيضانات وموجات الجفاف المتتالية، ووُجهت مصر خلال تلك الفترة تعنتًا دوليًا بعدم دعم الدول الكبرى والمؤسسات المانحة لمصر، وهو ما استتبعه بقرار تأميم قناة السويس في عيد الثورة الرابع في العام 1956، مما كان سببا في قيام اسرائيل بالتعاون مع فرنسا و بريطانيا بالهجوم على مصر في حرب بالعدوان الثلاثي، لكن تلاحم الجيش والشعب كان علامة فارقة في تاريخ مصر. وبينما تحل تلك الذكرى كل عام، والتي تعد إجازة رسمية في البلاد، إلا وتطفو خلالها معالم الوطنية الخالصة لأبناء القوات المسلحة البواسل، الذين يثبتون عن جدارة أنهم الأنفاس التي يتنفسها المصريون، فأينما يمر التاريخ تجد صدى أعمالهم تصدح في الأفق، وما بين ثورة 23 يوليو وثورة 30 يونيو رابط يظل مشتركًا ألا وهو استرداد الكرامة.