دخان كثيف يحجب نور الشمس، وخيوط رمادية تمنع الشيوخ والأطفال من استنشاق الهواء، حتى تكاد تفتك بأرواحهم اختناقًا، من حرق مخلفات الأرض الزراعية، التي أحاطت سماءهم بسحابة سوداء، لا ترحم سمومها صغيرا ولا ترأف بحال كبير، خلال شهري أكتوبر ونوفمبر من كل عام. الأرقام الإحصائية كشفت عن تراجع ظاهرة حرق المخلفات هذا العام، مقارنة بالعام الماضي، فيما يؤكد خبراء إمكانية الاستفادة من تلك المخلفات، باستخدامها كعلف للحيوانات أو تصنيعها سماد عضوي، والتي يمكن استخدامها في إنتاج الأخشاب. خلال السطور القادمة، ترصد "بوابة الأهرام" ظاهرة حرق المخلفات الزراعية بأسيوط، وكيف يمكن الاستفادة من هذه الخلفات، بما ينفع ولا يضر. ثابت عبدالعال - مزارع من مركز ساحل سليم- أكد ل"بوابة الأهرام"، أن حرق المخالفات هو نوع من أنواع نظافة للحقل، لافتا إلى لجوء المزارعين إلى هذه الوسيلة؛ لقتل الحشائش، ورفع درجة حرارة التربة "علشان تنفك"- بحسب تعبيره- بما يفيد في تسميد الأرض. على النقيض يرى محمود راضي - مزارع من قرية ريفا- أن ظاهرة إحراق المخلفات الزراعية، وعلى رأسها "البوص" مؤذية جدًا، ولكن يلجأ الناس إليها، لأنهم لا يجدون بديلًا عن إحراق المخلفات، مؤكدًا أن تدوير هذه المخلفات مكلفة، ومن الأفضل أن تقوم المحافظة أو مديرية الزراعة، بهذه المهمة، بتوفير الميكنة والأيدي العاملة لهذه المهمة. وأشار الدكتور ثابت عبدالمنعم، مدير مركز الدراسات البيئية بجامعة أسيوط، إلى إمكانية التنسيق بين مديرية الزراعة والمحافظة ومصنع الأسمنت؛ لنقل "البوص" واستخدامه في المصنع، بديلًا عن المازوت، وبالتالي يمكن السيطرة على عملية الحرق، التي تحدث بشكل عشوائي.
وأضاف أنه يمكن أيضًا إعادة تدويره، واستخدامه كسماد عضوي من خلال مصانع السماد العضوي بالمحافظة، وبيعه للمزارعين، بأسعار مخفضة، وسيكون ذلك مفيد جدًا للأراضي الزراعية، ومنوهًا بأن مدينة طهطا بمحافظة سوهاج، نجحت في إنشاء مصنع أخشاب، يقوم على استخدام "بوص" الذرة الرفيعة. الدكتور ثابت عبدالمنعم، أكد أن حرق المخلفات له تأثير سلبي كبير على صحة المواطنين، خاصة الأطفال وكبار السن، والمرضى، الذين يعانون من أمراض الحساسية والربو، مشيرًا إلى أن الحالات المصابة بهذه الأمراض، تزداد معهم حدة المرض خلال شهري أكتوبر ونوفمبر من كل عام، بسبب عملية حرق "البوص"، التي ينتج عنها انبعاث غازات أول وثاني أكسيد الكربون، الأمر الذي يؤثر على طبقة الأوزون، وارتفاع درجات الحرارة، كما ينتج عن هذه العملية زيادة الحوادث، بسبب الشبورة الدخانية التي تسيطر على الغلاف الجوي وطرق المحافظة. ويشير مدير مركز الدراسات البيئية بجامعة أسيوط، إلى أنه من المؤسف أن محافظة أسيوط، لا تأخذ دعمًا ماديًا من وزارة البيئة، من أجل مكافحة هذه الظاهرة، التي لم يتم تسجيلها باعتبارها إحدى المحافظات المصدرة للسحابة السوداء، وهذا وفقًا لكلام مسئول شئون البيئة بالمحافظة، الذي أكد لي أن الجهاز ليس لديه معدات كافية أو آليات لمكافحة السحابة السوداء. عدم إدراج أسيوط كمحافظة مصدرة للسحابة السوداء، أمر أكده ل"بوابة الأهرام" الدكتور محمد محمود، رئيس جهاز شئون البيئة بأسيوط، لافتا إلى المطالبة بإدراج أسيوط ضمن محافظات السحابة السوداء؛ للحصول على إمكانات مادية وآلات؛ لمكافحة هذه الظاهرة. وأشار إلى قيام حملات توعوية مستمرة بالتعاون مع الإرشاد الزراعي؛ للتوعية بخطورة الحرق، فضلًا عن تحرير 85 محضرًا حتى نهاية أكتوبر، بينما تم تحرير 784 محضرًا في نفس الفترة من العام الماضي، ومنوهًا، أن المقارنة بين الرقمين، تُظهر تقبل المزارعين لفكرة مكافحة الحرق، والاستفادة من المخلفات، سواء باستخدامها كعلف أو سماد عضوي. هالة محمود، مدير شئون البيئة بديوان محافظة أسيوط، أكدت تشكيل لجنة من شئون البيئة بالمراكز والقرى، وجهاز شئون البيئة، والدفاع المدني ومراكز الشرطة، وتم تحرير العديد من المحاضر، التي تراوحت غرامتها بين 10 آلاف إلى 100 ألف جنيه، على حسب المساحة المزروعة، وميرة إلى توجيه سيارات بميكروفونات؛ لتوعية الفلاحين في الحقول بخطورة الحرق المكشوف للمخلفات الزراعية. ويشير حمدي محمد خليل، مدير الإرشاد الزراعي بمديرية الزراعة بأسيوط، إلى دور المديرية في مكافحة حرق المخلفات الزراعية، قائلًا: "نظمنا 12 ندوة مجمعة في 6 مراكز هي أبنوب والفتح والقوصية ومنفلوط وأسيوط وأبوتيج، ترتكز فيها زراعة الذرة الرفيعة، فضلًا عن 38 ندوة في المراكز الإرشادية؛ للتوعية بخطورة حرق حطب المخلفات الزراعية، وخاصة الذرة الرفيعة". وأضاف أن المديرية وقعت بروتوكولًا للتعاون مع الشركة المصرية لتدوير المخلفات الزراعية، بالمنطقة الزراعية في بني حسن بالمنيا؛ لجمع ونقل وتشوين وفرم المخلفات، بحيث تأخذها الشركة بشكل مجاني من الفلاحين، على سبيل تنظيف الأرض.
وأوضح أنه بدأ تفعيل البروتوكول من مركز أبنوب؛ لأن المزروع من محصول الذرة الرفيعة به يمثل 35% من مساحة الذرة بالمحافظة، بمساحة تقدر ب22 ألف فدان، من إجمالي 71 ألف فدان على مستوى المحافظة، لافتًا إلأى جمع 6 آلاف طن، تمثل 10% من حجم المخلفات بالمركز. وطالب رجال الأعمال والمستثمرين بإنشاء شركة مماثلة بأسيوط؛ للاستفادة من المخلفات الزراعية في إنتاج الأخشاب أو السماد العضوي وغيرها. وهنا يشدد حسين عبدالمعطي، نقيب الفلاحين بأسيوط، على الفلاحين بضرورة الاستفادة من البوص، بدلًا من حرقه، باستخدمه كعلف "للمواشي" أو سماد للأراضي الزراعية. ويؤكد نقيب الفلاحين، أن النقابة تعقد ندوات مستمرة، بالمشاركة مع الحماية المدنية، ومسؤولي البيئة بالمحافظة، ورؤساء المراكز، ومديرية الزراعة؛ للتوعية بالآثار الناتجة عن حرق البوص، على صحة الإنسان. وأكد حسام مغازي -مزارع من مركز البداري- عدم حرق جميع المزراعين البوص؛ لأن الغالبية تجعل الذرة الشامية طعاما للماشية، ويستخدمونه كسماد عضوي، مشيرا إلى أن بعض محافظات الوجه البحري كالبحيرة، تزرع مساحات قليلة من الذرة، ويقومون بالاستفادة من هذا المحصول بكافة مشتملاته "العود والكوز والأوراق"، من خلال "دَرْسِهِ" في سن مبكرة، وحفر حفرة في الأرض ووضع المحصول بها، وإضافة بعض المحسنات عليها كالكيماوي والمولاس وتغطيتها وكمرها، وبعد فترة يتم استخدامها كعلف للحيوان، وهناك بعض المزارعين يقومون بالاستفادة من العود بتقديمه جافا للحيوانات، و"القوالح" يستخدم للتدفئة في الشتاء، أو أن يتم طحنه مع البذور والاستفادة منه كعلف. يوافقه الرأي على محمد- مزارع من نفس المركز- قائلًا: إن أفضل حل لموضوع إحراق مخلفات البوص، خاصة الناتج من الذرة الرفيعة، هو مشروع يسعى لتطبيقه خلال هذه الفترة، هو مشروع السماد العضوي "الكومبوست"، لأنه يفيد المزروعات، بشكل أفضل من الكيماوي والتسميد البلدي. آراء الفلاحين السابقة، أعادت إلى الأذهان تجربة هامة، نفذها مزارعو قرية "التتالية" بمركز القوصية، حيث تمكن المهندس ناجح توفيق، صاحب مصنع للآلات الزراعية، من تصنيع ماكينة فرم أعواد الذرة "السيلاج"؛ لاستخدامه كعلف للحيوانات، والقضاء على ظاهرة الحرق والاستفادة من المخلفات الزراعية. ويقول توفيق، إن ماكينة السيلاج تزن حوالي 900 كيلو جرام، ويبلغ ثمنها 30 ألف جنيه، لافتا إلى زيادة الإقبال على شراء هذه الماكينة هذا العام؛ نظرا لدورها الهام في التخلص من المخلفات، فضلا عن توفير السماد العضوي، وأعلاف الحيوانات.