تحت وهج شمس الظهيرة، لم يتوقف أحدهم عن استكمال التنقيب، بعد أن برز رأس الجثمان سارعوا للبحث عن بقية الرفات، عن دليل يجيء بخبر عن شخصه، تُرى من مالك تلك الحفرة الضيقة في الصحراء؟ بينما أبناؤه وذووه يجهلون مستقره. فور انتهاء مجموعة الجنود من جمع الرفات، لم يكن سوى مجموعة من العظام، أخفوها داخل اللفافة القماشية ناصعة البياض، حوطوها بقماشة مصبوغة بعلم البلاد. إكرام الميت دفنه. من قبل، تكفلت مجموعة بمهمة تصوير الجمجمة ومجموعة عظامه، ثم تصوير هِمة الجنود وخفة حركتهم، يزيحون الرمال بلطف. فبدا محجرا العينين مفتوحتن إلى أعلى، القدمان ممدودتان متجاورتان ومتيبستان. لم تكن عظام الذراعين بعيدة عن القفص الصدرى، اعتلته، خال مشهد الجثمان لبعضهم، كما الموميوات الملكية، وإن بدت بلا صولجان! انبرى الطبيب الشاب المرافق للجنود، شرد بناظرية ثم عاد ومال نحو الرفات، ها هنا على مقربة من شاطىء القناة على أرض سيناء، وقال: "لست من علماء الآثار، لكني أقسم أنها مومياء فرعونية طالها الإهمال!" وضح للرائى أن مجموعة الجنود، لم يشغلهم الخبر أو مقولة الطبيب، انشغلوا أكثر بالتمتمة، لم يسمع أحدهم ما يردده رفيقه من آيات قرآنية ودعاء غامض، وإلا ما سر هذا الخشوع والهيبة التي تلبستهم؟ بين الحين والآخر يعلو صوت أحدهم: "رددوا الشهادة معي يا جماعة.. أشهد أن لا الله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". رددوها خلفه. لحظات وصاح الرفيق المشغول بإحكام العلم حول الرفات، بصوت واثق: "أظنه قبطيًا، رددوا خلفى "أبانا الذي في السموات". رددوها خلفه. وبينما علت نبرة صوت الطبيب وهو يؤكد، يقسم أن الرفات فرعونية، اعترض النقيب قائد المجموعة العسكرية، وقال: "من أين لك بهذه الفكرة الغريبة؟" عاد الطبيب وسحب النفس الأخير من سيجارته، هز رأسه قائلًا: "لأن أجدادنا الفراعين حفروا قناة ها هنا، ومات في رمال هذه المنطقة الكثير، أنا واثق!" شوح الضابط بكلتا يديه في صمت، ثم تقدم نحو أحد الجنود يأمره بإحضار النقاله من سيارة الإسعاف القريبة، فيما الطبيب يتابع: "انظر إلى حجم محجري العينين، واسعتان، تأمل عظم جبهته العريض، حاول تقدير طول قامته، لم يكن الرجل طويلا، هكذا كان أجدادنا، ولعل هذا الرفات أحد جدود واحد من بيننا!" هذه المرة اقترب الضابط كثيرًا من الطبيب، اقترب لمسافة لا تتناسب أبدًا مع شدة نبرة صوته وكأنه يهتف: "بل هو أحد جنودنا الشهداء، وليس علينا الآن إلا البحث حول الرفات، لعلنا نعثر على دليل، إما أنه من شهداء حرب 67 أو حرب 73". لم ينته الحوار الزاعق، كل منهما يسرد الدليل الدامغ الذي يثبت به وجهة نظره، في حين نشغل الجنود في مهمة تخصهم وحدهم. لم ينفذوا الأوامر بنقل الرفات إلى سيارة الإسعاف مباشرة. بحركة هينة تحلقوا حول الرفات ثانية، بحلق أحدهم فى السماء يبحث عن قرص الشمس، ثم أشار إلى هناك قائلًا: "القبلة إلى اليمين قليلًا، صلاة الجنازة يا جماعة، وهي أربع تكبيرات، في الأولى تلاوة الفاتحة، وفي الثانية نتلو النصف الأخير من التشهد، وفي الثالثة ندعو للمتوفى، وفى الرابعة ندعو لأموات المسلمين.. الله أكبر". لم يتابع كل الجنود، بعضهم التف حول الجثمان، يرددون: "أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض. خبزنا الذي للغد أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير، بالمسيح يسوع ربنا لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد.. آمين". غضب الضابط قليلًا، وعاتب الطبيب أن أضاع عليه صلاة الجنازة، فابتسم الطبيب قائلًا: "لعلها في صالح المتوفى، يُصلى عليه مرتين، هيا بنا نصلي معا". فعلق الضابط: "المشكلة لو طلع فرعوني بجد ويتبع ديانة أخناتون!" لم تنته المهمة، أمر الضابط جنوده بالتنقيب في رمال المساحة التي تحيط بالرفات: "اسمعوا جميعًا، انقسموا إلى مجموعتين، كل مجموعة على جانب، يتم فورًا وبهدوء نقل كومة الرمال من هنا إلى مسافة ثلاثة أمتار، ومع كل كومة رمل يتفرغ بعضكم للتنقيب فيها بيديه وعينيه". لم تنقض سوى عدة دقائق قليلة، ثم تتابعت الأصوات وعلت، حتى يظن القادم أن الجنود عثروا على الكنز الخفي في الرمال، في حين أن من ينتبه يسمعهم يقولون: "وجدت البيادة يا أفندم، لم أجد الفردة الأخرى"، "وجدت السترة الميرى يا سيادة النقيب، لعله خلعها وألقى بها بعيدًا بسبب الحر في الصحراء، وتابع السير عاري الصدر"، "وجدت زمزمية المياة، يبدو أنه عسكري محنك، الزمزمية مكسوة بالخيش حتى تبرد المياه قليلًا". علت سحنة الضابط ابتسامة واثقة دون أن ينبس بكلمة، علق الطبيب وقال: "الاجتهاد مطلوب، والاحتمال قائم". لم يعلق الضابط وتابع سماع جنوده: "الظاهر أن الشهيد من المحلة، وجدت منديلًا محلاويًا مهلهلًا" فتمتم الضابط في نفسه: "المناديل المحلاوي في كل أسواق مصر". "يا فندم.. يا فندم، وجدت ما تبحث عنه" بلهفة عقب الضابط: "هل وجدت حافظة نقوده؟ أكيد يحتفظ داخلها بكل المستندات". لم ينتظر القائد أن ينهض الجندي ويسلمة الحافظة، أسرع الخطو، خطفها، كاد يصطدم برأس الطبيب فور وقوفه وعودته إلى حيث كان. كان من الممكن أن يكتفي قائد المهمة بما عثر عليه جنوده، لكنه أمرهم بالمزيد من البحث، وكأن العثور على الحافظة فتح شهيته للعثور على ما هو أهم، ربما يجدون مع الجندى وثيقة عسكرية أو ما يشير إلى اللحظات الأخيرة من حياته. تربع على الأرض، وكذلك فعل الطبيب، ثم أفرغ الحافظة، سلمها إلى الطبيب حتى لا تتبعثر في الرمال. وما إن تأكد من خلو الحافظة الجلدية الكالحة من أي شيء، بدأ يتفحص ما بين يدي الطبيب. مظروف خطاب تلاشت الكتابات من عليه بسبب العرق والزمن، صورة باهتة لطفلة في عمر لا يزيد على السنتين، لعلها ابنته، ورقة مطوية متآكلة وإن بان أنها مخطوط متهالك من السبع آيات المنجيات، التي شاعت أثناء فترات الحروب، عملات ورقية قليلة، ورقة جنية واحد وأخرى لخمسة قروش. كانت المفاجأة تلك العملات المعدنية، لم تكن عملات مصرية كما توقعا، كانت عملات معدنية صغيرة للعدو، فنظر الضابط إلى رفيقه: "هل تعلم معنى تلك العملات مع الشهيد؟" - كان بطلًا، يبدو أنه شارك في معركة وأسر أحد جنود الأعداء، واحتفظ بتلك العملات للذكرى". - بل معناها أنه من شهداء حرب 73 - أعلم أنه هناك بعض البطولات في حرب 67 أيضًا، وربما.. لم يتابعا الحوار، صرخ أحد الجنود فرحًا: "عثرت على اللوحة المعدنية، لكنها مثقوبة، لاسمه ورقمه العسكرى، محمد حسن عطوة، لكن الرقم العسكري مفقود تقريبًا".. شاع الخبر، تناقلته الصحف ونشرات الأخبار في الإذاعة والتليفزيون، وراجت صور الرفات والجنود من حوله. تضمن الخبر الإعلان عن الاسم ومكان العثور عليه، فزغردت النسوة، وهلل الشباب والرجال في قريتين، قرية في الصعيد وأخرى في المنوفية. فورًا بان لرجال التوجيه المعنوي في القوات المسلحة أن هناك مشكلة، مجموعتان من الرجال والنساء من قريتين، وكل منها تدعي نسبة الجثمان لها، دليلهم هو الاسم المعلن، وشكل الجمجمة. قال الشيخ الوقور وهو يضرب بعصاه الأرض، كبير المجموعة الأولى: "الشهيد عطوة شارك في حرب 67، وكان صديقي، يخبرني بكل شىء، وكثيرًا ما كان يحدثني عن فحولته، حتى كنت أشعر بالغيرة منه، وفى اللقاء الأخير معه وعدنى بالبوح عن سر تلك الفحولة التي يدعيها، لكنه لم يعد". فعلق الضابط الكبير بلا مبالاة: "ما تقوله ليس دليلًا على أن الشهيد هو الذي تخبرنا عنه وعثرنا على رفاته". انبرى الرجل العملاق بصوته الجهوري الواثق، كبير المجموعة الأخرى يقول: "الشهيد عطوة شارك في حرب 73، وكان صديق ولدى، وأخبره قبل عودته من الإجازة الميدانية الأخيرة له أنه في انتظار مولود جديد، وكلفه برعايته حتى عودته التالية، لكنه لم يعد". بملل، ومع الشعور بقلة الحيلة، علق الضابط الكبير: "وأيضًا ما تقوله ليس دليلًا". التقطت وسائل الإعلام الخبر، وبات خبر العثور على جثمان الشهيد حديث رواد المقاهي والنوادي وفي جلسات السمر بين الأهل، وحتى في الأسرة الواحدة. شعر الجميع بالورطة، وشاع السؤال: "لمن يسلم جثمان الشهيد"؟ كان من غير اللائق أن يعبر الضابط الكبير عن ضجره، وإن فضحه حاجباه الكثيفان، وختفت اابتسامة التي قابلهم بها. وفجأة تجلت خبرة سنين عمره العسكري، نهض واقفًا، وفي حسم قال: "وجدتها، الحل المناسب عندي". وفي الصباح التالي، كانت جنازة عسكرية مهيبة، تناقلتها شاشات التليفزيون، واستراح الرفات في مقابر الشهداء، وتقبل أهل القريتين العزاء في الفقيد الشهيد، والجميع على يقين أن الشهيد هو شهيد قريته.