يطرح احتراق المجمع العلمي قبل أسبوعين العديد من الأسئلة في ملف مكتبات الكتب النادرة، ولعل أهم تلك الأسئلة ذلك المتعلق ب "لماذا لم نعرف عن المجمع من قبل؟ ولماذا لم توجد لدينا أية فكرة عما يحتويه من كتب نادرة؟ ما الدور الذي كان يلعبه، وما أهميته إن لم يكن أياً منا قد شعر به من قبل وكيف تركت كل تلك الكتب النادرة دون حماية، هكذا وضعت علي أرفف عادية. لذلك قررت "بوابة الأهرام" أن تفتح ملف المكتبات النادرة ووسائل تأمينها، بهدف البحث عن طرق لاتاحة المعرفة وليس لحصارها أو الإبقاء على وضعها المتحفي، فلا قيمة لمعرفة خارج حدود الاستعمال، فلوحة زهرة الخشخاش سرقت من المتحف، ليس فقط بسبب الاهمال الأمني المتعمد وإنما ايضا لأنها ظلت في متحف لا يدخله يوم السرقة سوى 11 زائرا على الرغم من القيمة الفنية للوحاته. والأسئلة التي تبدأ في هذا الملف تبدأ بسؤال عن ضرورة الحاجة لدليل المكتبات الوطنية ونبدأها من دار الكتب والوثائق القومية، يجعل من مسألة إدراكها "بديهية " وليست أمنية. تعد دار الكتب والوثائق القومية أو المكتبة الوطنية والأرشيف الوطني كما يطلق عليهما الرئيس الجديد للهيئة زين عبد الهادي أخطر مؤسستان في مصر لحفظ الكتب والوثائق فهما يمثلان مستودع الذاكرة المصرية، تحوي دار الكتب التي أنشئت لأول مرة في 1870 تحت اسم "الكتب خانة" بالمقر القديم بباب الخلق، ما يزيد علي 4 ملايين كتاب و600 ألف مخطوط و130 ألف خريطة و25 مليون وثيقة ويدخل إلي الدار سنوياً مابين 2 إلي 3 ملايين وثيقة ومن 50 إلي 70 ألف كتاب، هذا بالإضافة إلي مجموعة من المسبوكات والعملات والتسجيلات الصوتية النادرة التي تعود لنهاية القرن ال 19 بداية من عام 1890. تحرس هذه المجموعة النادرة علي مدار 24 ساعة عبر نظام أمني متكامل يبدأ ببوابات تفتيش إلكترونية وكاميرات مراقبةترصد أروقة الدار والشوارع المحيطة بها علي مدار 24 ساعة، وتحتوي كل قاعة إطلاع علي 4 كاميرات تلاحق أعطالها باستمرار، ومصدر تيار كهربائي بديل لتلافي توقف الكاميرات، والمخازن مؤمنة بنظام إطفاء يدعي (Fog System) يطفئ النيران باستخدام الضباب في ثوان معدودة وهي مادة أقل ضرراً من المياه ومن ثاني أكسيد الكربون أيضاً، إضافة إلي كهربة السور الخارجي للدار حال حدوث حالة اختراق لها، ولكن تلك الإجراءات الأمنية تحولت وظيفتها علي مدار السنوات الماضية من حماية الوثائق من السرقة والتلف إلي حمايتها من القارئ. فالدار التي تعد ثاني أكبر مكتبة وأرشيف مخطوطات في العالم بعد الدار السليمانية بتركيا عملت طول السبعين عاماً الماضية ك"مخزن" لتلك الدرر النادرة. جزء من المعضلة كما يضعها زين هي التعقيدات الأمنية الكثيرة المتعلقة بالتصاريح وحقوق الإطلاع، التي جعلت المكان طارداً للزوار والباحثين، أحياناً يحتاج الإطلاع علي وثيقة واحدة لتوقيعات 17 موظف ومسئول، ويأمل زين في التخلص من تلك الإجراءات الأمنية ولكنه يعترف بأنها ستأخذ وقتاً أكبر خاصة وأن الأجهزة الأمنية لاتزال لها اليد الطولي في منح تصاريح الإطلاع علي قطاع من الوثائق، خاصة المتعلقة بأمور عسكرية أياً كانت، لذلك يوجه زين جهده لتطوير الجهاز البيروقراطي الضخم للدار والذي يضم 2300 موظف ويشكل جزءاً من المشكلة لا الحل، ويستلزم إجراء تغييرات كبيرة في البنية الإدارية، من خلال الإرتفاع بالدخل الإقتصادي للموظفين، والتنمية الثقافية لهم بتدريبات مكثفة. يضاف إلي تعقد الجهاز البيروقراطي وتضخمه القرارات التي صدرت في الستينيات وأساءت لدور دار الكتب بحسب زين، حين تقرر ضم دار الوثائق والهيئة العامة للكتاب التي حمل اسمها في ذلك الوقت اللجنة العلمية للترجمة والتأليف إليها، وإن كان قد تم فصلهما الآن إدارياً، إلا أنهما لايزالا في نفس المبني، الذي يقع علي كورنيش النيل وانتقلت إليه الدار في خمسينيات القرن الماضي، ويأمل زين في إعادة هيكلته داخلياً وخارجياً بواسطة خبير دولي يصل مصر في الشهور المقبلة. يعمل بالدار فنيون أكثر من المثقفون ويري عبد الهادي ذلك سبباً لعدم مشاركة المكتبة الوطنية في صناعة الثقافة، وهو المبرر الذي لطالما اتخذته الحكومة ذريعة لمنح الدار ميزانية متواضعة (56 مليون جنيه) في الوقت الذي تحصل فيه مكتبة الإسكندرية علي 265 مليون جنيه في السنة بخلاف المنح والهبات الدولية. لم تمتلك المكتبة الوطنية استراتيجية للعمل طوال السبعة عقود الماضية، ويقترح عبد الهادي إستراتيجية جديدة تبدأ بتغيير اسم "دار الكتب" الذي يتشابه كثيراً مع أسماء دور النشر العادية إلي "المكتبة الوطنية"، كبداية لإستعادة دورها في المرحلة المقبلة بعد ثورة 25 يناير. تقوم ركيزة الإستراتيجية المقترحة علي مشاركة المكتبة الوطنية في صناعة الثقافة بما يخرجها من كونها مجرد مستودع للكتب والوثائق النادرة ويربطها بشبكة عنكبوتية مع مختلف المكتبات التي تمتلك كتب ومخطوطات نادرة، وإنشاء 3 معاهد متخصصة تابعة لدار الكتب، تقود إنتاج المعرفة الخاصة بعلم المكتبات وتطويرها. المكتبة الوطنية كما يقول زين لم تضطلع بدورها خلال السنوات الماضية، تركت تراث مصر مبعثراُ في أماكن عدة، يحصرها زين في 18 مكتبة مركزية للجامعات ومكتبات دينية مختلفة ومكتبات خاصة في الأديرة و5 آلاف جمعية أهلية لديها مكتبات منهم 100 علي الأقل بها نفس المواد الثقافية الموجودة لدي مكتبة المجمع العلمي الذي احترق. وتخطط المكتبة الوطنية الآن لوضع قانون جديد يقيم شبكة إشراف فني من المكتبة الوطنية علي هذه الأماكن دون وضع يد الدولة عليها، ويكتفي يقدم الدعم الفني والمالي للعلميات المتعلقة بالفهرسة والتصنيف والحفظ ومعايير الإقتناء وإنشاء قواعد البيانات والتأمين ضد الحريق حسب المعايير العالمية. وفي المقابل تحصل المكتبة الوطنية علي قاعدة بيانات بالمكتبات التي تحتوي علي تراث نادر، وتسجل هذا التراث الموجود داخل هذه المكتبات وتحفظه بشكل رقمي. لا يقتصر دور المكتبة الوطنية علي حفظ الكتب والمخطوطات وإتاحتها للإطلاع، ولكنها تختص بإصدار نشره متكاملة عن الإنتاج الثقافي سنوياً تحتوي علي بيانات كاملة بالكتب الصادرة في مصر، وهي النشرة المتوقفة منذ 2008، وينتظر أن تخرج تلك النشرة مرة أخري مع بداية معرض الكتاب ووعد زين بإصدار تقرير سنوي معها عن الحالة الثقافية في مصر. وكل ما يتعلق بالنشر والسينما والمسرح والفنون والأوبرا. يأمل زين في إصدار قانون جديد للوثائق ينظم عملية الإطلاع بعيداً عن تحكم الأجهزة الأمنية ويلزم تلك الأجهزة ذاتها بتسليم وثائقها للدار بعد المدة القانونية المقررة، وأن يحدث تغييرات شاملة في الهيكل الإداري ويعيد تنظيم تصميم مبني الدار ذاته داخلياً وخارجياً والمساهمة بشكل فعال في صناعة الثقافة، وفي سبيل ذلك يحاول توفير مليار جنيه للدار، ولكن الأيام وحدها ستثبت مدي نجاحه في ذلك من عدمه في ظل انخفاض سقف التغييرات المسموح بها تأثراً بالظروف السياسية الحاكمة للبلد الآن.