أبوبكر عبدالسميع ثورة 23 يوليو عام 1952، لم تكن حدثًا عابرًا تمر به مصر مرور الكرام، بل وقفت عنده والعالم كله معها، وقوف انبهار باللحظة وتشوف الحالة، ولا هي مجرد ليلة مقمرة من أيام شهر يوليو ذي الصيف القائظ، أو ليلة سمر وأنس وفرفشة وضحك بانتصار تم باقتدار حركة أزاحت نظامًا به ملك ضاق بالناس من كثرة المشكلات المعقدة، وكفر المصريون به بسبب قضايا معلقة محبطة، ولم تك ثورة 23 يوليو حركة من قلب حراك قام به ضباط، ثم شعب أيدهم منذ الإعلان عن الحركة من خلال الإذاعة، بل تداعى إلى السمع صوت وطن طال صمته في محل الفم وسكن في الأذن، فلما تماهى الصوت الثوري، مصر كلها أصبحت أذنًا صاغية، وثورة يوليو لم تكن فقط قفزة للأمام؛ بل كانت انطلاقة تنتقل إلى الدخول في الدوائر الثلاث –العربية والإفريقية والإسلامية - وتستلم المهام الجسام بأمانة إحكام واحتكام. ولم تك مجرد تحرك من ثكنات الجيش المصري ووثبة إلى تطويق قصر عابدين واحتواء من به بتقييد وتحييد، بل ثورة 23 يولية أكبر من هذا وأعظم من ذاك؛ لأنها ثورة لها ما بعدها، أبعدية تملك وتمكن لا من أجل فئة أو طائفة أو طبقة، بل من أجل الإنسان المصري ككل، وبسبب المواطنين الفقراء البسطاء الذين هم أجراء الحقول وأسرى ماكينات المصانع بالأجر الهزيل، ومن كانوا تحت خط المهمشين في مجتمع النصف في المائة. لذا رنت بصائر قادتها وأبصارهم على مدد الشوف المجتمعي؛ فزحزحت ما قبلها من روابط تم فكها وإعادة هيكلة تواصل كان يتم بسلطة سلطاوية بفجوة خيط غير متصل مع الشعب، فتم قطع ألف بائه والتخلص من تعب حكومات حزبية أتعبت الشعب وأزعجت كل أمن فيه، وحكومات ائتلافية مشخصنة مصر في مصلحتها الحزبية، وفي كنه طبقتها الثرية ذات المصلحة الغبية. ثورة 23 يوليو 1952 قد يكون حتمية شروط بقائها حية ومترعة بالحياة والشباب الغض البض على طول التاريخ – وربما هذا قدرها - أنها من أكثر الثورات التي تم و- يتم - التطاول عليها بالقول المنطوق، والكلام المكتوب، والهجوم عليها.. وبرغم أسلحة ترسانات الهجوم عليها، فإن كل هذا يعطيها قوة بزخم التحدي والثبات، فهي ثورة ذات - كرامة غير درويشية - ونجحت الثورة في كل امتحانات وابتعدت عن الغش والتسريب، واعتمدت على نفسها بأن قرأت سطور وما وراء سطور المبغضين الكارهين الشانئين، الناظرين بعيون السخط، فردت ثورة 23 يوليو على ما وراء نياتهم؛ بأن طورت من نفسها وارتفعت خلودًا وارتقت بسموق رفعة، وتشبثت بالشعب فكتب الشعب لها البقاء في الأذهان وفي صندوق تاريخ الدنيا. وتزيد ثورة يوليو على ذلك بأنها حراك في شرايين المصريين، وانتقالات ملهمة في التاريخ ماضيًا حينما جرت أحداثها، وحديثًا ومعاصرًا عندما توالى على كرسي حكمها رؤساء، بداية من محمد نجيب، وصولًا إلى عبدالفتاح السيسي، مرورًا بجمال عبدالناصر، والسادات، وصوفي أبوطالب، ومبارك، والمشير طنطاوي، والدكتور محمد مرسي، والمستشار عدلي منصور. ويحسب لثورة يوليو ويخلد ثوابتها، تلك الثوابت الإيجابية المحفزة لكل حاكم يجد نفسه محكومًا بشرعيتها القيمة، وكذا شرعنتها للحراك المجتمعي بقوانينها الثورية.. صحيح ومن باب الموضوعية والامانة العلمية نقول: إن ثورة يوليو 1952 لم تكن كلها إنجازات، ولم تكن كلها سلبيات، بل خليط من هذا وذاك، ابتغت العمل الصالح فمشت في الطريق ولم تنتبه إلى الأشواك، وثورة يوليو ليست بدعًا من ذلك التفاعل البشري الكيميائي؛ فقد سبقتها ثورات كبرى غيرت وجه العالم ونحت به صوب الإيجابيات إلا أنها سقطت في سلبيات كارثية، مثل الثورة الفرنسية التي ما استقرت إلا بعد أن هدت وصدمت وضيعت وهدمت وبعثرت، كل هذا يعرفه التاريخ ويقيسه بمسطرة –التجربة الإنسانية- المعرضة للخطأ والصواب، فكل - ابن آدم خطاء- وثورة يوليو كذلك كانت في الملف والمحتوى الإنساني، لكنها - وفي لحظة فارقة - لم تسل فيها دماء أبرياء وغير أبرياء، كما حدث مع الثورة الفرنسية العظيمة، وعظمة ثورة يوليو أنها حافظت على الدماء بجعلها تضخ الحياة في شرايين المصريين بسلام. لذا ونحن نعيش ذكري ثورة 23 يوليو نقول: سلامًا عليها وعلي قادتها وصناع مجدها، فهي ثورة كالشمس لن تغيب، ربما تنسي ولكنها تختفي ساعات في لحظات المغيب، ثم ريثما تعود بشروق سراج ملهم في الفضاء والمضيق فوق السطح وتحت السقف، في الذاكرة والتاريخ، في القياس عليها بسياسة شرعية وهجها المشع ونفسها المضيء. تحية للمصريين بثورة يوليو ورؤى ذكراها، وتحية لكل الدول الكثيرة التي حررتها ثورة يوليو في كل من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، تحية لثورة هي الآن الذكرى والعبرة والتواصل الحلقي في سلسلة التاريخ، ثورة يقاس عليها ويؤخذ منها، ويتم السير على منهاجها؛ لذا فهي ثورة حية باقية.