عشية 23 يوليو عام 2010 كنت أجلس مع مجموعة من الأصدقاء والزملاء على أحد مقاهي وسط البلد، كنت وقتها أقضي إجازتي السنوية في القاهرة، حيث كنت لا أزال أعمل في صحيفة البيان الإماراتية التي تصدر بدبي، إحدى أجمل المدن العربية. يومها كانت تخيّم على أجواء مصر كلها، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، روح هائمة، تنتظر أن تحط بأجنحتها المشرعة على شجرة الثورة المثمرة، غير أن أحدًا ممن كنت أجالسهم في مساء ذلك اليوم اليوليوى الحار لم يكن يعلم يقينًا أن ملايين المصريين ستخرج بعد خمسة أشهر فقط إلى ميدان التحرير، وباقي الميادين الكبرى، ثائرة على ظلم امتد سنوات طوالاَ حتى لم تعد تقوى على احتماله. عكس النقاش الذي جرى ليلتها إلى أي مدى كان المصريون في حاجة إلى ثورة جديدة، تخلصهم، كما فعلت الثورة الأم في يوليو 1952، من عهد استشرى فيه الفساد، وتسلط فيه الفسدة على رقاب العباد، حتى هان الوطن على البعض من ضعاف النفوس وباعوه في سوق النخاسة، فانحاز بعضهم إلى سفارة المحتل البريطاني الذي كان يدير اللعبة السياسية، جهارًا نهارًا في تحدٍ لإرادة المصريين، الذين كانوا يحلمون بوطن حر مستقل عزيز، عصي على أعدائه. كانت الثورة تكمن نفوس المصريين قبل 23 يوليو 52، وهم يرون كرامتهم يداس عليها من محتل غاشم، وملك فاسد، فيما أحزاب وجماعات سياسية - إلا من رحم ربي - ترتمي في حضن هذا الطرف أو ذاك، في وقت كانت فيه طليعة من أبناء الوطن الشرفاء، داخل القوات المسلحة، قد قررت أن تضع أرواحها على أكفها من أجل خلاص شعب. يقول البعض ممن في نفوسهم مرض إن يوليو انقلاب عسكري نظمته حفنة من ضباط الجيش المغامرين، ويقول التاريخ إن هؤلاء وعلى رأسهم الخالد جمال عبدالناصر غيّروا صفحة التاريخ ليس على شاطئ النيل بل في المنطقة والعالم، فيما كان الحاقدون عليهم يتآمرون على مصر، أو يسعون لاختصارها في جلباب ضيق لا يليق بتاريخها الحضاري العريق. اليوم تجد الثورة الأم نفسها في خصومة مفتعلة مع بعض ممن يزعمون انتماءهم لثورة 25 يناير، والذين لا يدركون أن مصر منذ عهد أحمس ورمسيس الثاني ومرورًا بأحمد عرابي ورفاقه وسعد زغلول وإخوانه، وحتى جمال عبدالناصر وأنور السادات تسبح في نهر الوطنية الواحد، وإن اختلف تقييمنا لهذا الزعيم أو ذاك في هذه الواقعة التاريخية أو تلك. ثورة يوليو لا تحتاج إلى شهادة من أحد على الكم الهائل من المكاسب التي صنعتها للمصريين، ولا يضير الثورة الأم ألا يحتفل بها جماعة من الموتورين. وفي الأخير: تحيةً إلى جيش مصر العظيم، فما أشبه الليلة بالبارحة.