نصيب جمهور هذه الأيام من الحضور الجميل لنجيب الريحاني شحيح جدًا؛ حيث لا يعرض له على الفضائيات سوى ستة أفلام فقط (موجود نسخة من فيلمه "ياقوت" في يوتيوب)! ورغم أنه رحل عن عالمنا منذ 68 عامًا، وبالتحديد في 8 يونيو عام 1949، فإن الأجيال المتعاقبة ما زالت مفتونة بأدائه وإبداعه! ترى أين يكمن السر؟ ولماذا يحتل (سي نجيب) - كما كانت تناديه ماري منيب - هذه المنزلة الرفيعة في قلوب المصريين؟ وهل لاستيعابه لأجمل وأنبل ما في الثقافتين المصرية والأجنبية دور في ذلك؟ ثم ما حكاية هذا الفنان النادر الذي ولد في باب الشعرية بالقاهرة، بينما جده من مواليد الموصل بالعراق؟ الخرنفش والفرير: لم يتم الاتفاق بين مؤرخي السينما ونقادها على العام الذي ولد فيه نجيب الريحاني، فهناك من يقول إنه ولد سنة 1890، وآخر يخمن أن الدنيا استقبلته في 1889، في حين يؤكد الناقد الكبير كمال رمزي أن الريحاني مولود في سنة 1887. وأغلب الظن أن التاريخ الأخير هو الأدق، لأن ملامح وجهه وتجعيداته في فيلم (غزل البنات) تشير إلى أنه تجاوز الستين، ومعروف أن "غزل البنات" أنتج عام 1949. على أية حال ولد نجيب في حي باب الشعرية لأب يدعى إلياس ريحانة - وليس ريحاني – من أصول عراقية يعمل في تجارة الخيول، وقد تزوج الأب من فتاة مسيحية مصرية يقال لها لطيفة، التي أنجبت له الابن الذي سيغير فنون الضحك والتمثيل في عالمنا العربي. في هذا الحي الشعبي، الحي العتيق، عرف الطفل نجيب معنى الفقر والهموم بعد أن فقد أبوه الكثير من الأرباح التي تدرها تجارة الخيول، لكن من حسن الحظ أن نجيب التحق بمدرسة الخرنفش ثم الفرير فأتقن اللغتين العربية والفرنسية حتى حصل على شهادة البكالوريا، ليكتفي بذلك مع موجة العطب التي اجتاحت تجارة أبيه. هجر الفتى التعليم والتحق بوظيفة صغيرة بالبنك الزراعي، وهناك التقى توأمه الأول – توأمه الثاني سيلتقيه فيما بعد – وأعني عزيز عيد الذي يعد أول مخرج مسرحي بالمعنى الحديث للكلمة، لكنهما طردا من الوظيفة بسرعة، والسبب يشرحه لنا كمال رمزي في كتابه "نجوم السينما العربية". يقول الناقد الحصيف:"فالفنانان عرفا طريقهما إلى الأبواب الخلفية للمسارح؛ ذلك أنهما عن طريق متعهدي الكومبارس، كانا يتحركان ضمن المجاميع في الفرق الأجنبية التي تقدم عروضها في القاهرة، ثم يواصلان سهرتهما في الحديث حول المسرح حتى مطلع الفجر، مما يؤدي إلى ذهابهما متأخرين إلى عملهما بالبنك الزراعي، والأدهي إنهما يستكملان بحماسة حديثهما عن الفن في مكان العمل". انتهى كلام ناقدنا الكبير ولم ينته الحديث عن الريحاني بعد بوصفه أعجوبة فنية عابرة للقرون. القاهرة والأجانب: هنا يجب أن نتوقف قليلا لنكتشف كيف كانت القاهرة في مطلع القرن العشرين حاضنة للثقافة والفن والإبداع؛ فالفرق الأجنبية التي تأتي إليها من كل فج عميق ما كان لها أن تتحمل مشقة السفر إلى العاصمة التليدة لو أنها لن تستقبل بحفاوة من حيث الربح الوفير والتكريم اللائق، كما يشير الحضور الكثيف لهذه الفرق في مصر إلى أن وطننا الغالي كان يضج بمئات الآلاف من الجنسيات المختلفة أتوا إليها ليعملوا ويطوروا ويربحوا، وقد جاءت هذه الفرق لترفه عنهم وتمتعهم، ولم يكن المصريون ينفرون من ذلك أو يغضبون، بل كانوا حريصين على التعامل مع أولئك الأجانب والاستفادة من خبراتهم، ومشاهدة العروض الفنية التي تقدمها الفرق الأجنبية الوافدة والاستمتاع بمنجزاتها الفنية. الملاحظ أيضًا أن الرواد الأوائل للفن في مصر كانوا يمتازون بالجدية والانضباط، وأغلب الظن أن هذه الخصال الحميدة قد اكتسبوها من خلال احتكاكهم بالفرق الأجنبية التي كانوا يعملون بها أو يشاهدون عروضها المدهشة على المسارح المنتشرة في شارع عماد الدين، أو في دار الأوبرا الخديوية التي أسسها الخديوي إسماعيل عام 1869. كشكش بيه: نعود إلى حكاية نجيب الريحاني الذي هجر الوظيفة نهائيًا بعد العمل فترة قصيرة في شركة السكر بنجع حمادي وعاد إلى القاهرة ليبحر في نهر المسرح، فالتحق وصديقه عزيز عيد بفرقة عكاشة لصاحبيها الشقيقين زكي وعبد الله عكاشة، ليقدما فقرة هزلية بين الفصول المسرحية، لكن الحزن كان يعتريهما بسبب هذه الفواصل الهزلية التي تتعارض مع ثقافتهما العميقة، لأنهما كانا قد نهلا من نبع المسرح الفرنسي الكثير والكثير، فاطلعا على مسرحيات موليير وراسين وغيرهما. هكذا إذن قررا هجر فرقة عكاشة، وفي خطوة جريئة أقدم عزيز عيد على تأسيس فرقة باسمه، كان نجمها الأول نجيب الريحاني، وقدمت الفرقة عروضا جادة لفتت إليها الانتباه مثل "خلي بالك من إيميلي" المستوحاة من نص فرنسي، لكن الحرب العالمية الأولى (1914/ 1918) بدلت المزاج العام للجمهور الأجنبي والمصري، كما يحدث عادة في أوقات الحروب أو الثورات، وراح الجمهور ينفر من العروض الجادة ويبحث عن الترفيه والتهريج ليخفف عنه كوابيس الحرب وويلاتها، بخاصة وأن القاهرة كانت مأوى لجنود من كل صنف ولون هبطوا أرضها ضمن قوات الجيش البريطاني. هنا اختلف الرفيقان، وزاد الاختلاف بعد أن هجر الجمهور مسرحهما الجاد، فتراكمت الديون، فانفصل نجيب الريحاني وأسس فرقة تحمل اسمه وأسس مسرح "الإجيبسيانة" – لاحظ الاسم الفرنسي للمسرح - وشرع يقدم عروضًا كوميدية لا تخلو من الابتذال تحت اسم "كشكش بيه" عمدة كفر البلاص! وهي شخصية مبتكرة عن عمدة ساذج من الريف ربح أموالًا كثيرة من تجارة القطن في الحرب العالمية الأولى، لكنه أضاعها على راقصات القاهرة وحاناتها! وها هو ذا الريحاني نفسه يصف "كشكش بك" في مذكراته التي أصدرها عام 1938، وأعادت نشرها دار الهلال قبل عامين، يقول: "وجلست أمام المرآة أصنع لنفسي مكياجًا، وأضع للمرة الأولى ذقن "كشكش بك" وانتهيت من مهمتي ونظرت إلى شكلي في المرآة، ولا أنكر عليك يا سيدي القارئ أنني شاهدت وجهًا فنيا يطابق الشخصية التي رسمتها في مخيلتي... شخصية العمدة الريفي الساذج". ويبدو أن حجم الإسفاف في هذه العروض كان أكبر من المعتاد لدرجة لم يتحملها كاتب شهير هو مصطفى لطفي المنفلوطي، فأخذ يكتب ويلعن الريحاني وكشكش بيه قائلًا: "كان الشر مفرقًا في أنحاء البلد، فجمعه كشكش في مكان واحد"! الفنان المخضرم: بعد اندلاع ثورة 1919 تغير مزاج المصريين وذائقتهم تغيرًا كبيرًا، فالثورة أشعلت الروح الوطنية في صدور الناس (عدد المصريين في عام 1920 بلغ 13 مليون نسمة تقريبًا). وارتفع معدل الثقافة العامة، وأصبحت شخصية كشكش بيه غير لائقة للعهد الجديد، وككل فنان ذكي تخلص الريحاني من كشكش، وتعرف على بديع خيري– توأمه الثاني - الزجال الموهوب الذي يعرف كيف يمصّر النصوص المسرحية الفرنسية لتلائم الواقع الاجتماعي في القاهرة. وهكذا بدأ الريحاني يقدم عروضًا كوميدية هادفة، مستفيدًا من خبرات حياتية عريضة تراكمت في صدره، ومدججًا بتجربة مسرحية متنوعة وشديدة الثراء. من أهم وقائع هذه المرحلة هو اكتشافه لعبقرية سيد درويش؛ إذ استعان به (سي نجيب) ليلحن بعض الأغنيات اللازمة للعروض المسرحية التي تقدمها فرقته، وبالفعل انضم سيد درويش لفرقة الريحاني ولحن له مجموعة من الأغنيات الجميلة، ولك أن تدهش لأن النشيد البديع الذي كان يردده الثوار في ميدان التحرير في ثورة يناير 2011 (قوم يا مصري.. مصر دايما بتناديك) قدمه سيد درويش للمرة الأولى في مسرحية "إش" التي كتبها بديع خيري وأخرجها وقام ببطولتها نجيب الريحاني في عام 1920! مشاهد لا تنسى: في احتفال ضخم بمناسبة مرور خمس سنوات على وفاة نجيب الريحاني، أي في عام 1954، قال الموسيقار الأعظم محمد عبد الوهاب إنه: "لولا السينما، ما أدركنا قيمة نجيب الريحاني لأنها خلدت أداءه وفنه وصورته، لتراها الأجيال الجديدة التي لم تحظ بمشاهدته على خشبة المسرح". حقًا.. ما أروع السينما، وها هي ذي الأفلام الستة التي لعب بطولتها الريحاني تعرض باستمرار في الفضائيات، وإن كان قد قدم قبلها فيلمين اختفيا من أرشيفنا السينمائي للأسف لفترة، هما: "ياقوت" الذي وجدوه مؤخرًا، وقد أخرجه مخرج أجنبي اسمه روزييه، وعرض في 23 مارس 1934، وكتب القصة والسيناريو بديع خيري وشاركه الريحاني في كتابة الحوار، أما الفيلم الثاني فهو "بسلامته عاوز يتجوز" لمخرج أجنبي أيضًا اسمه إلكسندر فاراكاش، وبطولة عزيزة أمير وبشارة واكيم وعبد الفتاح القصري، عن قصة لبديع خيري أيضًا الذي كتب السيناريو وشاركه الريحاني في صياغة الحوار. وقد عرض في 6 فبراير 1936. وليس له وجود حتى الآن. أجل لم نشاهد هذا الفيلم الأخير، لكننا نتابع دومًا فيلم "سلامة في خير"، أول أفلام المخرج نيازي مصطفى الذي عرض في 27 نوفمبر 1937، أي أنه يمكن القول إننا نطالع الأداء السينمائي للريحاني منذ بدايات عمله في السينما تقريبًا، الأمر الذي يسهل لنا عمل دراسة عن هذا الأداء وتطوره. لاحظ من فضلك أن الرجل كان على مشارف الخمسين حين عرض فيلم "سلامة في خير)"، ما يعني أنه وصل إلى قمة نضجه الفني، وهكذا احتشدت أفلامه بمشاهد مذهلة تنم عن عبقرية في الأداء وبساطة عميقة في التمثيل. إذا أردت أن أحصي لك عدد المشاهد الآسرة للريحاني في السينما، فلن تكفينا هذه المساحة، لكني أدعوك إلى تأمل ملامحه وهو يشاكس شرفنطح في "سلامة في خير"، أو وهو مرتعب من بلطجة عبد الفتاح القصري في "سي عمر" (عرض في6 يناير 1941)، أو حين يطلق تحية كاريوكا في ("لعبة الست" (عرض في 28 فبراير 1946)، أو وهو يقاوم غواية سامية جمال في "أحمر شفايف" (عرض في 9 سبتمبر 1946)، أو وهو يبث أشواقه لزوزو شكيب في "أبو حلموس" (عرض في 27 أكتوبر 1947) وأخيرًا أرجوك لا تبك عندما تراه يبكي وهو ينصت إلى عبد الوهاب وهو يشدو بأغنيته الجميلة عاشق الروح في "غزل البنات" (عرض في 22 سبتمبر 1949). هذا هو نجيب الريحاني الأعجوبة الفنية التي ولدت في القرن قبل الماضي، لكنها قادرة على التأثير والإسعاد في القرن الحالي!