كانت الصين دولة ذات حضارة متقدمة ومزدهرة لآلاف السنين حتى القرن الثامن عشر، وكانت الصين رائدة فى مجال الإبداع التكنولوجى والتنمية الاقتصادية طيلة أغلب عصور تاريخها لأنها تتمتع بمخزون ضخم من أهل الحرف والمزارعين. ولكنها بعد ذلك تحولت إلى دولة فقيرة طيلة 150 سنة. والآن عادت لتصبح ثانى أكبر دولة اقتصاديا. والحقيقة أن خروج الصين من الفقر المدقع والطغيان الوحشى فى بحر جيل واحد لهو عمل بطولى فذ، والصين تستحق التحية على هذا الإنجاز. والانتصارات التى سجلتها الصين على الصعيدين السياسى والاقتصادى، ، تجعل النموذج الصينى يبدو وكأنه بديل جذاب لرأسمالية الديمقراطية الليبرالية والصينيون لا يعظون ولا يلقون المحاضرات بشأن الديمقراطية، لهذا هو شديد الجاذبية، ليس فقط فى نظر النخبة الجديدة من زعماء العالم النامي، بل إنه يتمتع بجاذبية عالمية أيضاً. والحقيقة أن الحكام الأفارقة يعشقون هذا النموذج. فجوهر النموذج الاقتصادى الصينى يتلخص فى الترتيب الدقيق لأولويات الإصلاح، مع إعطاء الأولوية للإصلاح الاقتصادى قبل الإصلاح السياسي. والغريب فى موضوع الصين اختلاف نظرة الغربيين للصين بدرجة كبيرة عما ينظر به الصينيون إلى أنفسهم فالعديد من المسئولين الصينيين لديهم خلفية هندسية، خلافاً لنظرائهم الغربيين الذى هم أغلبهم من المحامين. فالمهندسون فى نظر رجال الأعمال أشخاص قادرون على حل المشاكل بطريقة عملية، فى حين يتسم المحامون بالهوس بالتعقيدات الإجرائية والعزم على استغلال الثغرات التعاقدية. فضلاً عن ذلك فإن أغلب المسئولين الصينيين تعلموا لغة الأعمال الغربية وبوسعهم التحدث بذكاء عن المشاكل التى يتعين على الشركات أن تحلها. كما أن رجال الأعمال الغربيين يسيئون فهم الصين وأن إعجابهم بالحكومة الصينية ليس أكثر من انعكاس لإحباطهم من حكوماتهم. فقد نفد صبرهم إزاء الفوضى التى تتسم بها العملية الديمقراطية والتنظيمات الخانقة، والضرائب المرتفعة، والتدقيق الإعلامي. وعلى النقيض من هذا يجدون مع حكومة الحزب الواحد فى الصين قدراً أعظم من السلاسة فى التعامل مع المسئولين القادرين على اتخاذ قرارات سريعة وتنفيذها على الفور تقريبا. وتأتى نتيجة هذه المقارنة غير المقصودة عادة لصالح المسئولين الصينيين، الذين يتميزون فى مجموعهم بالتعليم الأفضل والانفتاح على العالم والتركيز على الأعمال (لأن الحزب الشيوعى الحاكم يستخدم النمو الاقتصادى والاستثمار الأجنبى كمعيار لترقية المسئولين). وبوصفها منظمة فإن الدولة الصينية أكثر قوة وأشد دقة فى تحديد أهدافها مقارنة بالدول الغربية. والغريب فى موضوع الصين أن رجال الأعمال الغربيين يقارنون الصين بغيرها من الدول النامية، لكن المواطنين الصينيين يستخدمون معايير أعلى كثيراً لأنهم لا ينظرون إلى بلدهم بوصفها مجرد دولة نامية أخرى. بل إنهم ينظرون إلى الصين باعتبارها قوى عظمى، عادت إلى الظهور ومن المحتم أن تنضم إلى صفوف الدول الأكثر تقدما على عكس المسئولين الصينيين الذين يتجنبون وصف الصين بالقوة العظمى، فمن المفيد بالنسبة للصين أن يُنظَر إليها باعتبارها دولة «فقيرة نامية» لا أن ينظر إليها بوصفها عملاقاً اقتصاديا، وذلك لأن الدول «المتقدمة» يُنتَظَر منها أن تبذل المزيد من الجهد فى مكافحة التحديات العالمية الكبرى، مثل تغير المناخ - وهذا هو المطب الذى وقعنا فيه مرارا وتكرارا من رفع نسبة النمو حتى نفتخر بأننا دولة متقدمة، لهذا خرج من المساعدات والمنح الغربية ومن اعفاءات الديون للدول الأقل نموا - والمفارقة الكبرى أن الشعب الصينى يتسم بقدر أكبر من الثقة فى حكومته. وطبقاً لاستطلاع آراء أجرته مؤخراً مؤسسة World Values Surveys فقد أعرب 96.7٪ من الصينيين عن ثقتهم فى حكومتهم مقارنة بِ 37.3٪ فقط من الأمريكيين. وعلى نحو مماثل أظهر الاستطلاع أن 83.5٪ من الصينيين يرون أن بلادهم تُدار من أجل كل الصينيين، وليس من أجل قِلة من جماعات المصالح. بينما رأى 36.7٪ فقط من الأمريكيين نفس الرأى بالنسبة لدولتهم. فى ظل هذه الثقة الأعلى نسبياً، سنجد أن الحكومة والمؤسسات الصينية أكثر قدرة على سن وتنفيذ السياسات الصارمة التى من شأنها أن تعمل على تشجيع الادخار والنمو. اليوم يقفز الاقتصاد الصينى قفزته الكبرى التالية إلى الأمام: فالآن تتحرك أجزاء من قطاعه التصنيعى إلى أعلى سلسلة القيمة المضافة وإلى خارج البلاد. والآن أصبح التحدى الصينى عالميا. فلكى تحافظ الصين على قاعدتها الإنتاجية القائمة على التصدير، فإن الناتج لابد أن يتحرك إلى أعلى سلسلة القيمة المضافة، نحو منتجات أكثر تطورا. وبوسع الشركات المتعددة الجنسيات تحقيق هذه الغاية فى إطار شبكات الإنتاج العالمية المتكاملة، وهو ما من شأنه أن يسمح لها بتنظيم عملية تقسيم العمل بين الشركات على المستوى الدولي. وأى ش سلاسل الإنتاج هذه من الممكن أن يقع فى أى مكان يتناسب على النحو الأمثل مع القدرة التنافسية الدولية التى تتمتع بها الشركات المختلفة. والواقع أن مثل هذه الشركات تتمتع بالخبرة اللازمة لاستكشاف العالم بحثاً عن مواقع الاستثمار الصحيحة وفى الوقت نفسه، سوف ينتقل الإنتاج الذى يتطلب عمالة كثيفة فى الصين على نحو متزايد إلى بلدان أخرى حيث تكاليف العمالة أقل بما فى ذلك مصر وبنجلاديش، والهند، وإندونيسيا، وفيتنام ، فضلاً عن العديد من البلدان الإفريقية. وهذا هو دور الحكومة المصرية فى اجتذاب هذه الشركات لجنى الثمار التجارية الناجمة عن إدراج نفسها فى التقسيم الدولى للعمالة. كما يتعين على هيئة الاستثمار أن تستهدف على نحو متزايد الشركات الصينية لاجتذابها إلى أراضيها.. كما يتعين على الحكومة المصرية ألا تكتفى باستهداف الشركات الكبرى المملوكة للدولة، بل أيضاً ذلك العدد المتنامى من مؤسسات القطاع الخاص الصغيرة والمتوسطة الحجم النشطة فى الصين، التى يمكن العثور عليها فى قطاعات الاقتصاد كافة. وعلى الحكومة أن تضع السياسات الكفيلة بتمكينها من التكيف مع هذا التحول العالمى فى الإنتاج. والحكومة الصينية تركز الآن على ثلاثة من أهداف الاقتصاد الكلي: خلق الوظائف، وتثبيت الأسعار، ونمو الناتج المحلى الإجمالي. وكما تبين من «تقرير العمل» السنوى الذى قدمه رئيس الوزراء مؤخراً للمؤتمر الشعبى الوطنى الصيني، فإن التأكيد الحالى على الأولويات يأتى وفق هذا الترتيب، مع وضع نمو الناتج المحلى الإجمالى فى ذيل القائمة. لهذا تكتسب الصين هيئة مختلفة تماماً عن تلك المعتادة خلال الثلاثين عاماً الأولى من معجزة نموها. وتسعى التحركات التى تقوم بها الصين اليوم من أجل تقوية الروابط بينها وبين إفريقيا لتحقيق ثلاثة أهداف: تأمين الإمدادات من الطاقة والموارد المعدنية، وتقليص النفوذ التايوانى فى القارة، وتوسيع نطاق النفوذ الصينى المتنامى على مستوى العالم. نحن أمام أربع قضايا لابد من دراستها، القضية الأولى التى تهمنا كمصريين ليس فى جذب المزيد من الاستثمارت والتكنولوجيات الصينية المتقدمة بل فى دراسة هذا النموذج الفريد ومحاولة تقليده والعمل على قدم وساق للالتحاق بمجموعة البريكس. ودراسة قضية الفقر دراسة مستفيضة، حيث إن الفرد الصينى يدرك أن أبناءه أو أحفاده سوف يصيبون الثراء والنجاح ذات يوم. على العكس من ذلك، وكما حدث فى ألمانيا بعد الحرب، كان من قبيل الكرامة أن يعمل المرء بكل كد واجتهاد سعياً إلى المرور عبر موقف عصيب سوف يُذْكَر لاحقاً باعتباره تحولاً تاريخياً. والقضية الرابعة فى كيفية تدعيم المؤسسات التكنولوجية. ففى السنوات الاربع الماضية دعمت الحكومة الصينية أكثر من ألف مؤسسة عالية التكنولوجيا بأموال سندات الخزانة وقد حققت هذه المؤسسات تقدما اختراقيا فى ثمانية عشر مجالا رئيسيا مثل الاتصالات والالكترونيات والمواصلات والطب والأدوية وحماية البيئة والمواد الجديدة والتكنولوجيا الاحيائية وتنمية غرب الصين . ونجحت الصين فى اقامة منظومة شاملة لدراسة التكنولوجيا الحيوية ومن ثم بدأت بوادر الاقتصاد الاحيائى تبرز الى حيز الوجود وذلك بعد أكثر من عشرين سنة من الجهود. فى الصين حاليا زهاء 200 مختبر رئيسى بشأن التكنولوجيا الاحيائية ويعمل فيها اكثر من 20 الف شخص . وانشأت كثيرا من الجامعات والمعاهد اختصاصات فى مجال علوم الحياة والتكنولوجيا الحيوية بالاضافة الى 500 مؤسسة ذات تكنولوجيا حيوية معاصرة وتزداد بسرعة 100 مؤسسة كل سنة . كما اقامت بكين وشانغهاى وقوانغتشو وشنتشن اكثر من عشرين حديقة ذات تكنولوجيا حيوية . فإذا نجحنا فى الانضمام إلى البريكس (روسيا - الصين - الهند - البرازيل - جنوب إفريقيا) نكون قد حققنا أكثر من 70٪ من آمال المصريين فى تحقيق التنمية المستهدفة حيث تعمل البريكس على إعادة تنظيم العالم بعيدا عن الدول المتقدمة وهى تهدف إلى: شراكة من أجل التنمية، والتكامل، والتصنيع وتعزيز المصالح الوطنية، ودعم الأجندة الإفريقية، وإعادة تنظيم البنية المالية والسياسية والتجارية على مستوى العالم، وتأمل البريكس إلى زيادة التجارة فيما بينهم وبقية إفريقيا من نحو 340 مليار دولار فى عام 2012 إلى أكثر من 500 مليار دولار فى عام 2015، لكن النجاح الأكبر لمجموعة البريكس يتمثل فى إنشاء بتك للتنمية بهدف توجيه التنمية على النحو الذى يعكس أولويات مجموعة البريكس وإمكاناتها وسيعمل على الحد من هيمنة الأمريكيين والأوروبيين على مؤسسات بريتون وودز. بالإضافة إلى أن الأموال الصينية أصبحت فى كل مكان، ويرجع الفضل فى ذلك بشكل خاص إلى بنك التنمية الصينى وبنك التصدير والاستيراد الصيني. وباعتبار المؤسستين مسئولتين عن كل التمويل الصينى فى الخارج فإنهما تحدثان موجات فى مختلف أنحاء العالم. وتؤكد التقارير أن الحكومات المتلقية للمساعدات راضية عن نهج المساعدات الذى تتبناه الصين. فهناك غياب ملحوظ للتكاليف الباهظة التى يفرضها المستشارون فى إطار ما يطلق عليه حزم «المساعدات الفنية»، وهى الممارسة التى كانت محوراً رئيسياً للانتقاد الموجه إلى العديد من وكالات التمويل. والأمر الثانى أن المساعدات الصينية لا تتطلب «بعثات» تمهيدية قبل المشروعات من قِبَل بيروقراطيين يصلون من مقار نائية لممارسة نوع من السياحة التنموية التى تعيث فساداً فى الإجراءات الروتينية لنظرائهم المحليين الذين يضطرون إلى مصاحبتهم فى رحلاتهم لتفقد الفقر. والأمر الثالث أن المساعدات الصينية يتم توزيعها بسرعة وبلا احتفالات ومراسم رسمية، الأمر الذى يجنبها الضجة المرهقة الناجمة عن المفاوضات المطولة والمستندات المتضخمة للمشروعات، وهى الممارسة التى يطلق عليها العديد من الدارسين والممارسين مصطلح «دبلوماسية دفتر الشيكات». فالمساعدات الصينية لا تتطلب «مشاورات» أصحاب المصلحة المرهقة، من ذلك النوع الذى دام ما يقرب من عشرة أعوام لبناء محطة توليد الطاقة الكهرومائية ثيون 2 فى لاوس بتمويل من البنك الدولي. ومن ثم استطاعت الصين أن تحرز تقدما كبيرا فى إفريقيا، ففى غضون عقد واحد من الزمان نجحت الصين فى تبديل موازين القوى فى إفريقيا، وزحزحة الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة إلى المرتبتين الثالثة والرابعة، بل منافسة فرنسا على المرتبة الأولى باعتبارها الشريك الرئيسى للقارة على الصعيدين الاقتصادى والتجاري، كان سبباً فى انزعاج هؤلاء المنافسين إلى حد كبير. إن معظم الشركات الصينية العاملة فى مجال الاستثمار فى مصر موجودة فى منطقة غرب خليج السويس، وقد وصل عدد مشروعات الاستثمار الصينى 648 مشروعا فى قطاعات الاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، وقطاع الإنشاء، والقطاع الخدمى، والقطاع الزراعى والسياحى والصناعى. كما تم طرح مجموعة من المشروعات على المستثمرين (التعليم - الطاقة - الطاقة المتجددة - الزراعة - البترول) بهدف دراستها تمهيداً للتفاوض بشأنها أثناء زيارة الرئيس السيسى للصين. وكذلك أثناء انعقاد مؤتمر «دعم وتنمية الاقتصاد المصرى - مصر المستقبل» المقرر عقده فى مارس المقبل فى شرم الشيخ بمشاركة رؤساء وقادة الدول أو من يمثلهم، بالإضافة إلى كبرى الشركات العالمية ومجتمع الأعمال.