رغم أن عدد سكانها الأصليين لا يتجاوز المليون نسمة من400 مليون عدد سكان منطقة اليورو واقتصادها يشكل اقل من0.2% من اجمالي الناتج المحلي لمنطقة اليورو, فإن الأزمة المالية التي واجهت قبرص في الاسابيع الماضية قد هزت ارجاء القارة الأوروبية وربما الأسواق الدولية التي لن تهدأ إلا باتفاق حول برنامج انقاذ للدولة الجزيرة بالبحر المتوسط. مثل ايرلندا وايسلندا, تعد قبرص جزيرة صغيرة ولكنها ذات نظام مصرفي متضخم فبفضل استراتيجية النمو التي تستهدف تحويل الجزيرة الي مركز مالي أوف شور لاسيما بالنسبة للأموال الروسية المشبوهة, فقد قفزت ميزانيات البنوك القبرصية لتصل الي800% من الناتج المحلي الاجمالي للبلاد في عام2011 ونظرا لانكشاف العديد من البنوك الكبيرة فيها علي اليونان فإن إعادة هيكلة ديون الأخيرة قد أضر كثيرا بتلك البنوك وتفادي انهيارا ماليا في قبرص التي تعاني أزمة سيولة نقدية جاء بالتوصل الي صفقة إنقاذ جديدة مع الدائنين الدوليين خلال مفاوضات ماراثونية استمرت أكثر من عشر ساعات في بروكسل التي تجبر كبار المساهمين وحملة السندات وأصحاب الودائع الكبيرة في البنوك المتعثرة علي تحمل جزء من تكاليف إنقاذ هذه البنوك, ليصبح هذا الاتفاق نموذجا لأي عملية مستقبلية لإنقاذ البنوك في الاتحاد الأوروبي. والاتفاق الجديد بشأن قرو الإنقاذ التي تطلبها قبرص اسقط شرطا سابقا خاصا بفرض ضرائب علي الودائع المصرفية الذي واجه رفضا متكررا من جانب البرلمان القبرصي, مقابل إعادة هيكلة اكبر بنكين في قبرص وتحميل اصحاب الودائع التي تزيد علي100 الف يورو جزءا من الخسائر الناجمة عن اعادة الهيكلة. ووفقا للاتفاق ستتم تصفية بيبولار بنك اوف سيبروس المعروف باسم بنك لايكي من خلال تقسيمه الي قسمين الأول يضم الأصول المشكوك في تحصيلها والمعدومة والثاني يضم الأصول المربحة او الجيدة علي ان يتم دمجه مع بنك اوف سيبروس مع تحمل كبار المودعين والدائنين والمساهمين في البنكين جزءا من الخسائر. وفي تعليق له علي الاتفاق قال يورين ديسيلبلوم وزير مالية هولندا ورئيس مجموعة اليورو ان إبعاد المخاطر عن القطاع المصرفي وإلقاءها علي كاهل الشعب ليس النهج الصحيح, واضاف ان التعامل مع المتعثرين لن يكون بصورة تلقائية علي طريقة: سنأتي ونخلصكم من مشاكلكم. أما كريستين لاجارد رئيسة صندوق النقد الدولي فقالت انها ستطلب من الصندوق المشاركة في تمويل قروض الانقاذ المتفق عليها مع قبرص. كان البرلمان القبرصي قد رفض اكثر من مرة خلال الأسابيع الماضية اتفاق قروض الانقاذ الذي كان يتضمن فرض ضريبة غير متكررة علي الودائع المصرفية في قبرص بهدف توفير حوالي5.8 مليار يورو كجزء من حزمة الإنقاذ التي تقدر قيمتها الاجمالية بحوالي17 مليار يورو. وتتضمن خطة اعادة هيكلة اكبر بنكين من قبرص وهما بنك لايكي وبنك اوف سيبروس, حصول الأول علي حوالي9 مليارات يورو من قروض الطوارئ التي يقدمها البنك المركزي الأوروبي وهو الإجراء الذي كان يقال ان الرئيس القبرصي سيعارضه بشدة. في الوقت نفسه فإن مساهمي وحملة سندات ومودعي بنك لايكي سيتحملون جرءا من تكاليف خطة إعادة الهيكلة كما سيتأثر بنك اوف سيبروس ايضا بحسب ما قاله رئيس مجموعة اليورو الذي اوضح انه سبق التفكير في هذا الحل ولكن لم يتم التأكد من قبوله سياسيا, ولكن تدهور اوضاع القطاع المصرفي القبرصي بسرعة في الآونة الأخيرة فرض هذا الحل. يذكر ان القطاع المصرفي القبرصي قد تضرر بشدة من تداعيات ازمة ديون اليونان المستمرة منذ سنوات نظرا لكثافة استثمار هذا القطاع في القطاع المالي اليوناني, وبسبب الأزمة المالية التي تواجهها البلاد تم إغلاق جميع البنوك القبرصية لمدة اسبوعين لإعطاء الحكومة وقتا كافيا لإعداد خطة تؤهلها للحصول علي حزمة انقاذ من المقترضين وتجنبها السقوط في هاوية الإفلاس, حيث كانت هذه الخطة تقوم علي اساس فرض ضريبة غير متكررة علي الودائع المصرفية وهو ما كان يهدد البنوك بالانهيار بسبب اندفاع المودعين لسحب ودائعهم اذا لم تكن الحكومة قد قررت تعليق عمل جميع البنوك. جاء هذا فيما عملت ماكينات الصراف الآلي بصورة طبيعية في انحاء البلاء باستثناء بنكي لايكي وبنك اوف سيبروس, حيث فرض البنكان حدا اقصي للسحب بمقدار100 يورو للعميل في اليوم الواحد, وفي الوقت نفسه امتنع عدد كبير من المتاجر والشركات عن قبول تحصيل قيمة مبيعاتها ببطاقات الائتمان واصرت علي الدفع نقدا. وقد حاول وزير المالية الألماني فولفجانج شويبله طمأنة المودعين الأوروبيين بأن ودائعهم في المؤسسات المالية لاتزال مؤمنة مشيرا الي ان جميع الدول الأعضاء تضمن جميع الايداعات التي تصل الي100 الف يورو في حال حدوث إفلاس وهذا يحدث ايضا في قبرص لكنه بالمناسبة لا يزيد من التزامات الدولة القبرصية وطمأن شويبله عملاء البنوك في بلاده علي ودائعهم قائلا ان تأمين الايداعات يشترط ان تكون الدولة قادرة علي السداد ولما كانت ألمانيا قادرة علي سداد التزاماتها فليس هناك مدعاة لقلق الناس في ألمانيا علي حساباتهم المصرفية. من المقرر اختتام المفاوضات بين قبرص ولجنة الترويكا منتصف ابريل.. وتضم اللجنة المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي. وتجدر الإشارة الي أن الحد الأقصي للمساعدات التي ستمنح للدولة الجزيرة سيصل الي عشرة مليارات يورو, بينما هي في حاجة الي16 مليارا, الأمر الذي سيدفعها حتما في رأي البعض لمحاولة الحصول علي القدر المتبقي من روسيا التي سبق ان اقرضتها من قبل. ماذا تعني الصفقة لمنطقة اليورو وعملتها الموحدة؟ أشار تحليل لصحيفة الهيرالدتريبيون إلي أن صفقة الإنقاذ التي تمنع إفلاس قبرص وخروجها من منطقة اليورو ترسخ لمفهوم جديد وهو ان كبار حملة السندات قد فقدوا الحماية المطلقة لأموالهم وان دافعي الضرائب لن يتحملوا عنهم الخسائر, وذلك علي الرغم من حصول الجزيرة علي عشرة مليارات يورو من المساعدات, وهو ما يعادل60% من اجمالي ناتجها المحلي. وذكر التحليل ان الاتفاق سيكون له تداعيات طويلة الأجل. مبدئيا لن يكون هناك المزيد من عمليات الانقاذbailout بدونbailin او مشاركة داخلية, بمعني مشاركة المستثمرين والمودعين في الخسائر, والأزمة القبرصية كانت بمثابة ناقوس إنذار بانتهاء عصر ما يطلق عليه اقتصاديات الكازينو, فإذا كان لمنطقة اليورو الاستمرار مع اتحاد مصرفي يتمتع بالمصداقية فلن يكون هناك المزيد من اقتصاديات الكازينو أي انه لن يكون هناك المزيد من الجزر الصغيرة مثل قبرص لديها قطاع مصرفي يزيد حجمه علي ناتجها المحلي الاجمالي سبع مرات, وتلعب وفقا لقواعدها الخاصة وتهدد كل من يتعامل باليورو. والخطة الجديدة التي تفصل عمليات انقاذ البنوك عن الديون العامة او السيادية وتعمل علي استخدام سلطة البنك المركزي الأوروبي لفرض ضوابط مالية جديدة تعتبر تحولا هاما بالنسبة للاتحاد الأوروبي في صراعه للحفاظ علي العملة الموحدة. يذكر ان الازمة القبرصية قد اثارت تساؤلات جيواستراتيجية حول دور الأموال الروسية المغسولة, لتصبح ايام بالجزيرة كملاذ ضريبي معدودة, فمن المؤكد ان ألمانيا وغيرها من دول اوروبا الشمالية لم تكن لتوافق علي فكرة انقاذ المسئولين الروس الذين لديهم حسابات سرية في قبرص. فقد فقدت قبرص تعاطف المجتمع الدولي بمحاولتها لحماية كبار المودعين- الذين لديهم اكثر من100 ألف يورو من تكبد خسائر كبيرة في خطوة بدت انها تستهدف حماية المودعين الروس. فكان الرئيس القبرصي المنتخب حديثا علي استعداد لفرض ضريبة علي الودائع التي تقل عن100 الف يورو, وهو الأمر الذي يتعارض مع قواعد الاتحاد الأوروبي التي تضمن تلك الودائع, غير ان البرلمان القبرصي رفض هذه الخطة مع احتشاد الآلاف اعتراضا عليها. الأزمة القبرصية اثارت من جديد الجدل حول استدامة اليورو كعملة موحدة للعديد من الاقتصادات المتباينة, فبعدما اعتقد الجميع أن اليورو قد تجاوز ازمته الحقيقية, بتعهد البنك المركزي الأوروبي العام الماضي بالدفاع عن العملة الموحدة, والتغييرات المؤسسية والتطورات الايجابية في دول مثل اليونان, البرتغال, ايرلندا, جاء التخبط السياسي في ايطاليا وازمة قبرص ليلحقا الضرر به مرة أخري. وصفقة انقاذ قبرص كان لها منتقدون, مثل رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولز الذي قال عن المفاوضات انها تفتقر الي الشفافية والمصداقية الديمقراطية, وانه تم تناولها بشكل سيئ, واضاف ان عدم خبرة رئيس مجموعة وزراء المالية الذي تولي منصبه هذا قبل شهرين, وكذلك رئيس قبرص الجديد, أدي الي تفاقم حالة التخبط. وقد شهدت المفاوضات توترات بين صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية والبيروقراطية الدائمة للاتحاد الأوروبي, فالصندوق مارس ضغوطا علي دول مثل قبرص لفرض سقف علي الديون وإلزام المستثمرين بتحمل خسائر في حين ان المفوضية المهتمة بعدم انتشار العدوي وتأثير الاجراءات الصارمة علي اقتصادات اخري داخل منطقة اليورو كانت اقل تشددا. وفي حين انه بالنسبة لايرلندا تم انقاذ بنوكها المتعثرة تماما وتم تأميم ديونها فان المفهوم الجديد هو تقييد انكشاف الدول السيادية علي البنوك المتعثرة وانهاء العلاقة المباشرة بينهما وهذا يعني تحمل البنوك والمستثمرين والمودعين المشكلة وليس القاءها علي عاتق دافعي الضرائب من خلال صناديق انقاذ منطقة اليورو مثل آلية الاستقرار الاوروبي. * اليورو ليس في الواقع, يورو في كل مكان: القانون الذي تم تمريره هذه الايام في قبرص يمهد الطريق لفرض قيود علي رأس المال, فالتشريع يسمح للحكومة فرض حد اقصي علي تحويلات الودائع البنكية والمسحوبات النقدية وهو اجراء لم يمنحه اي من البنك المركزي الاوروبي او المفوضية الاوروبية فكلاهما راي ان هذه الضوابط ضرورية لتجنب تدفقات خارجة غير محكمة. لكن هذا الاجراء يعرض كلا من العملة الموحدة وسوقها للخطر, فأهم ما يميز اي اتحاد نقدي هو القدرة علي نقل الاموال بدون اي قيود من بنك الي اخر داخل الاتحاد, ولكن مع وجود قيود علي رأس المال, فان اليورو في قبرص لم تعد قيمته تساوي اليورو في اي بنك في منطقة اليورو, واليورو في نيقوسيا لا يمكن استخدامه لشراء سلع في فرانكفورت بدون قيود, وهذا يعني في واقع الامر ان اليورو لم يعد يورو. وهنا يقول المحلل الاقتصادي مارتن وولف في مقال له في صحيفة الفايننشال تايمز ان اليورو ليس في الحقيقة يورو في كل مكان, وتعتبر كل عملات اليورو تقريبا في الحقيقة ديون بنوك, وازمة قبرص تبين ان قيمة اليورو المرتبطة بديون البنوك تعتمد علي ملاءة البنك نفسه وملاءة الحكومة التي يتبعها فاذا كان كل من البنك والدولة متعثرين فمن المرجح الا يقتصر الامر علي فقدان المودعين جزءا كبيرا من مدخراتهم مباشرة لان بقية اموالهم مجمدة في اطار ضوابط تم فرضها لمنع انهيار النظام المصرفي. وهذه الضوابط التي يفترض ان تكون مؤقتة مستدامة فالذي ينهيها هو موافقة البنك المركزي الاوروبي علي تمويل البنوك القبرصية بدون حدود وهو الامر الذي لن يتحقق ربما في المستقبل القريب. وهكذا كشفت ازمة قبرص ان العلاقة بين البنوك والجهات السيادية ومنطقة اليورو اكثر تعقيدا مما بدت عليه من قبل لكنها اكدت ايضا ضرورة احتفاظ جميع بنوك المنطقة برأسمال اكبر. ويضيف وولف ان ما اطلق عليه من زواج سيئ بين اعضاء منطقة اليورو ازداد سوءا بعد ازمة قبرص في ظل تباين تكاليف الاقتراض بالنسبة للبنوك والدول. الازمة كانت فرصة جديدة لتجدد المخاوف من ان يضعف اليورو الوحدة الاوروبية بدلا من تعزيزها فحتي عندما يبدو ثمن البقاء داخل الاتحاد باهظا كما كان بالنسبة للقبارصة وغيرهم فان المدينين علي استعداد لدفعه حيث ان الانفصال اكثر مدعاة للقلق والخوف. لاتزال قبرص داخل منطقة اليورو ولكن في ظل اضطراب قطاعها المصرفي وغضب الجماهير والاقتصاد الذي يواجه كارثة يبدو كأنها تستعد للرحيل واستراتيجية التقشف الملازمة لبرامج الانقاذ الاوروبي لا يمكن ان تحقق للمنطقة النمو الصحي فهي تساعد علي ضعف الاقتصاد وزيادة البطالة والازمات خاصة في الاقتصادات الضعيفة. ازمة قبرص هي حلقة جديدة من قصة طويلة مؤلمة لم تبدأ بعد كتابة الفصل الاخير فيها*