حمدي الجمل الركود التضخمي الذي أصاب مفاصل الاقتصاد خلال عام 2016 هو مرض يصيب أي اقتصاد في العالم، وعلاجه في منتهى الصعوبة؛ ومن أعراضه ارتفاع الأسعار بشكل كبير مع عدم إقبال الناس على الشراء بشكل أكبر، وتمتد هذه الحالة إلي الاستثمار في كل النواحي الاقتصادية من زراعية إلي صناعية، وربما يصل الأمر إلي توقف الاستثمارات الجديدة المحلي منها والأجنبي حتي تزول حالة الكساد القائمة. ويعد واقع الاقتصاد المصري حاليا من أبرز مظاهر حالة الركود التضخمي حيث ارتفع معدل التضخم إلي 2و20% لأول مرة في تاريخ مصر خلال شهر نوفمبر الماضي، ودلالة هذا الارتفاع تعني تآكل أمول المودعين في البنوك عند مستويات سعر الفائدة القديمة 5 و12 % وعند 16 % الجديدة، وكذلك عند مستوي 20 % الذي تم طرحه لمدة عام ونصف العام غداة الإعلان عن تحرير سعر الصرف، وكذلك انخفاض القوة الشرائية للجنيه وتآكل الرواتب والأجور بنفس معدل التضخم. لكن ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه بنسبة 100% من 888 قرشا إلي نحو 17 جنيها تقريبا، مثّل صدمة قوية للرواتب والأجور وأحدث خللا مدويا في الأسواق، وانجلي الضباب عن المشكلات التي خلفها تحرير سعر الصرف مثل أزمة ارتفاع سعر السكر والأرز والدواجن والزيوت وبقية السلع الأخري، ويبقي سعر الدواء والمعركة الدائرة بين وزارة الصحة وبين الشركات المصنعة أبرز تجليات هذه الحالة, الشركات تؤكد أنها تستورد مستلزمات الإنتاج والمادة الخام من الخارج وأن الدولار رفع كلفة الإنتاج، وأنها لن تستطيع أن تبيع منتجاتها وفقا للأسعار القديمة عند مستوى 888 قرشا للدولار، ووزارة الصحة تقول بأنها لن تتخلي عن المواطن ولن تسمح برفع سعر الدواء والنتيجة اختفاء العديد من أصناف الدواء من السوق. وفي قطاع العقارات ارتفعت أسعار الوحدات السكنية بنسب كبيرة جدا، كما ارتفعت أسعار الأراضي إضافة إلي ارتفاع سعر الحديد والأسمنت وبقية مواد البناء، ورغم هذا الارتفاع ونتيجة للثقافة المصرية التي تتجسد في الإقبال علي شراء السلع عند ارتفاع أسعارها خشية زيادتها بسعر بشكل أكبر، أو اعتبار الاستثمار في العقارات هو استثمار للزمن و شراء وحدة سكنية وإعادة تأجيرها لزيادة موارد ودخل الأسر وفقا لقانون الإيجار الجديد . إلا أن الركود التضخمي دفع القطاع العائلي إلي التخلي عن ثقافته وتوقف عن الشراء وأعتبر الجنية مخزنا للقيمة، ووضع ما لدية من أموال في شهادات البنوك ذات عائد 16% و20 % علي أمل استقرار الأوضاع وانخفاض قيمه الدولار حتي يعودوا مرة أخري إلي السوق بسبب قناعتهم بأن 17 جنيها للدولار سعر غير عادل وسيدور متوسط سعر الدولار ما بين 10 إلي 12 جنيها علي أقصي تقدير. حالة الترقب هذه أصابت السوق بالشلل التام, البنوك تجمع السيولة بإغراء المودعين بسعر الفائدة المرتفع، والمستثمرون لن يضعوا أموالهم في السوق في ظل حالة الالتباس وعدم اليقين القائمة وينتظرون استقرار الأوضاع للبدء في مشروعاتهم، والراغبون في الاقتراض من البنوك علي قناعة تامة بأن تأجيل الاقتراض في ظل أسعار الفائدة المرتفعة هو القرار الاستثمارى الناجح و الراغبون في الاستثمار الزراعي قرروا وقف شراء أو بيع الأراضي الجديدة حتي يستقر السوق ويصل إلي السعر العادل، والمستوردون لمستلزمات الإنتاج الخاصة بصناعتهم أوقفوا الاستيراد في ظل سعر الدولار الحالي . وبالنسبة للمواد الغذائية فإن ارتفاع الأسعار دفع المصريين من فقراء وطبقة متوسطة مطحونة أن يحددوا أولويات إنفاقهم في السلع الغذائية الضرورية وتأجيل قرار الشراء بالنسبة للسلع المعمرة من ثلاجات وبوتاجازات حتي يعود الاستقرار للسوق. قطاع التشغيل هو الآخر يشهد نفس الحالة لأن المرتبات والأجور تآكلت وبات من الصعب بل من المستحيل أن يقبل صاحب العمل برفع الرواتب والأجور بنفس نسب التضخم، وأصبح المستحيل نفسه أن يقبل شاب يدخل سوق العمل لأول مرة أن يتقاضي 1200 جنيه كحد أدني للأجور، ونلاحظ جميعا حاجة أصحاب العمل إلي عمالة مؤهلة ومدربة ورفض أصحاب الخبرات العمل في ظل هذه الأجور المتدنية أو بمعني آخر الأجور الاشتراكية في زمن الاقتصاد الحر. المستفيد الأكبر من هذه الحالة المرضية التي يمر بها الاقتصاد المصري هو السائح الأجنبي لو قرر العودة إلي السوق المصري بعد انخفاض قيمة الجنيه بشكل كبير لكن الحروب التي تفرضها بريطانيا وشروط روسيا المبالغ فيها جعلت هذه الميزة هي والعدم سواء، إضافة إلي فشل السياسية المصرية في فتح أسوق جديدة للسياح في كل من الهندوالصين، إذا يكفي أن نشير إلي أن مصر لو نجحت في الحصول علي 1% من حجم السياحة الصينية لجذبت نحو 15 مليون سائح من الصين فقط . ويمكن أن تكون الصادرات المصرية أكبر المستفيدين، إذا إن سعرها في الأسواق العالمية سيكون منافسا، لكن السؤال أين هي الصادرات المصرية أصلا؟ الصادرات الزراعية توجه صعوبات كبيرة بسبب الإهمال وعدم اتباع السياسيات الرشيدة في استخدام المبيدات التي ترفضها الأسواق الأوروبية والروسية وحتي الأسواق العربية. وبالنسبة للصادرات الصناعية فهي في انخفاض مستمر بسبب مشكلات جوهرية في بنية التركيبة الصناعية نفسها، إضافة الفشل في استغلال السوق الأفريقية الجبارة وفتح أسواق دول الكوميسا الذي يبلغ عدد سكانهم نحو 500 مليون نسمة. وربما استفاد الاحتياطي النقدي من هذه الحالة بعد تخلي المصدرين عن تخزين الدولار وتحولوا إلي اعتبار الجنيه مصدرا للقيمة بعد ارتفاع أسعار الفائدة . وارتفاع الاحتياطي النقدي أمر جيد بكل المقاييس . لكن إلي متي ستستمر الدولة في جمع الدولارات من السوق المحلي؟ وهل هذا حل ناجح؟ أم أن البحث عن آليات جديدة لعودة النشاط الاقتصادي ورفع معدلات النمو وزيادة الصادرات مع الاستمرار في تخفيض الواردات هو الحل المناسب بشرط توافر منتج محلي بسعر مناسب وجودة مرتفعة . وأتصور أن الخروج من هذه الحالة المرضية يتطلب عدة إجراءات فورية من قبل الدولة منها التشدد في إجراءات السياسة المالية المتعلقة برفع الجمارك عن السلع التي لها مثيل محلي مع وضع إستراتيجية لرفع جودة هذا المنتج لسد طلب السوق المحلي وإنشاء هيئة أو وزارة للاستيراد تستورد كل ما يحتاجه المواطن المصري سلع وتوفير كل مستلزمات الإنتاج الخاصة بالصناعة والزراعة، وأن يكون دور القطاع الخاص هو العمل في مجال الصناعة ومجال الزراعة ومجال القطاع الخدمي لأنه لا ينبغي أن ترك غذاء المصريين في يد 4 محتكرين كما أنه من غير الطبيعي أن تتخلي هيئة السلع التموينية عن دورها وتترك استيراد القيمة والغذاء للقطاع الخاص . لأن التجربة الفاشلة التي عشنها تدفعنا إلي وضع إستراتيجية جديدة تقضي بتشجيع القطاع الخاص عن العمل وترك السلع الإستراتيجية ومستلزمات الإنتاج للدولة. إضافة إلي البحث عن توفير العملة الصعبة بتغير كل سياساتنا ورؤانا القديمة والكف عن الوقف عند عتبة الغرب والاتجاه شرقا نحو روسيا وجنوبا نحو أفريقيا والصينوالهند واليابان سياحيا وصناعيا وزراعيا. ووقف فوري لكل الخطط الرامية إلي رفع أسعار الطاقة عن المصانع ورفع الدعم عن المواطنين لمدة تتراوح ما بين 3 إلي5 سنوات، مع إصدار قرار جمهوري برفع الرواتب والأجور والمعاشات بنسب من 20 إلى30 % للقطاعين العام والخاص. مع سرعة إصدار قانون الاستثمار الذي كان من المفترض أن يصدر بعد مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي مارس 2014 به نصوص واضحة أهمها أن الأرض بحق الانتفاع، وأن التحكيم يكون أمام المحاكم المصرية وأن الضرائب بنسب واضحة ومعروفة وثابتة لمدة عشر سنوات، حتي إن كانت ضرائب تصاعدية تصل إلي 50% , مع خفض سعر الفائدة إلي معدلات تناسب قدرة الاستثمار علي الاقتراض، وتوسيع قاعدة الصناعات والمشروعات الصغيرة والمتوسطة شريطة أن يكون ذلك تحت مظلة مشروع صناعي كبير يجمع كل الصناعات المغذية ويمكن اختصار كل هذه الأفكار في عودة مصر حضارة زراعية كما كانت تأكل مما تنتج التوسع في الصناعات التحويلية كثيفة العمالة إضافة إلي الاعتماد علي اقتصاد المعرفة، لأن من يملك المعرفة يملك المستقبل . والمعرفة سبيل مصر الوحيد للخروج من كل أزماتها باستخدام التكنولوجيا في كل شيء وتشجيع الشباب المصر علي إنتاجها لكل شيء .