عبد الرحيم رجب وها نحن أمام خلق جديد في منظومة القيم الأخلاقيّة في المجتمع البشريّ عمومًا وفي الإسلام خصوصًا، إنه الإيثار؛ وهو أن يُقدّم المرءُ غيرَه على نفسه في جَلب النفع له ودفع الضر عنه، فالإيثار يكفّ الإنسان عن بعض حاجاته حتى يبذلها لمن يستحقها؛ وذلك يحدث عن قوّة اليقين بجزيل الثواب، فالإيثار يجعل المرء يُقدِّم غيره على نفسه رغبة في ثواب الآخرة، فهو من أعلى مراتب البذل والعطاء، فانتشاره يخلق المودة والرحمة بين الناس، وهو دليل على نقاء النفس وصفائها، أثنى الله على المتصفين به، ووصفهم بالفلاح في الدنيا والآخرة؛ فقال: "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبلِهِم يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَةً مِّما أُوتُوا وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ" الحشر: 9. فإذا كنت ممن يسهل عليهم العطاء، ولا يؤلمهم البذل؟ فأنت سَخِي، وإن كنتَ ممن يعطون الأكثر ويُبقون لأنفسهم؟ فأنت جواد. أما إن كنت ممن يعطون الآخرين مع حاجتك إلى ما أعطيت لكنك قدمت غيرك على نفسك؟ فقد ارتقيت إلى مرتبة الإيثار. وصفه أبو سليمان الدَّارني؛ فقال: "لو أنَّ الدُّنيا كلَّها لي فجعلتها في فم أخ مِن إخواني لاستقللتها عليه"، وقال أيضًا: "إنِّي لألقم اللُّقمة أخًا مِن إخواني فأجد طعمها في حلقي". وضرب لنا صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في الإيثَار وأجملها، فنجد في قصص إيثارهم ما يعده البعض ضربًا من الخيال، ففي معركة اليرموك استشهد عدد من المسلمين، وأصيب بعضهم بجروح خطيرة، وكان من بين الذين أصيبوا: الحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، وعياش بن ربيعة، فلقد سقط الثلاثة في أرض المعركة جرحى، فأسرع إليهم بعض الصحابة ونقلوهم إلى الخيمة التي يتم فيها علاج الجرحى من المسلمين، وأحسّ الحارث بن هشام بالعطش الشديد، فأشار إلى رجل كان يساعد الجرحى بأن يحضر له الماء، وجلس الرجل بجوار الحارث ليسقيه، فنظر الحارث إلى عكرمة وهو يرقد بجواره فأحسَّ بأنّه يريد الماء، فقال الحارث في نفسه: لو شربت الماء فلن يتبقى ماء لعكرمة، فقال للرجل: خذ الماء لعكرمة فإنّه عطشان، فقال له الرجل: وأنت أيضًا عطشان!! فقال له الحارث: الماء قليل فأعطه لعكرمة، فأخذ الرجل الماء وأعطاه لعكرمة، فنظر عكرمة ل"عياش ابن ربيعة" فأحسّ أنه يريد الماء، فقال الرجل: الماء قليل فأعطه لعياش!! فنظر عيّاش للرجل الذي كان بجواره، فقد كانوا سبعة في الخيمة قد أصيبوا بجراحٍ خطيرة، فقال الرجل: الماء قليل فأعطه للرجل الذي يرقد بجواري، وهكذا ظلَّ كلَّ واحدٍ من هؤلاء السبعة يطلب من الرجل أن يسقى أخاه الذي بجواره، فلما وصل إلى السابع وجده قد مات، فعاد إلى السادس ليعطيه الماء فوجده قد مات، فعاد إلى الخامس ليجده قد مات، فعاد به إلى الرابع فوجده قد مات، فنظر إلى "عياش" ليعطيه الماء فوجده قد مات، فنظر إلى عكرمة ليعطيه الماء فيجده قد مات، فيسرع إلى الحارث ليعطيه الماء فيجده قد مات.. فآثر كلَّ واحدٍ منهم الآخر على نفسهِ حتى ماتوا جميعًا!! كيف تكتسب الإيثار؟ · قوة الإيمان واليقين بجزيل ثواب الله لأهل الإيثار، فالإيمان القوي يدفع صاحبه للبذل والعطاء. · بالكرم والسخاء والبُعد عن الشُّح والبُخل. · بحبِّ الناس وبذل الخير لهم، والتخلص من الأنانية وحبُّ النفس. · برقة القلب؛ فمَن رَقَّ قلبه ولانت طباعه سَهُل عليه أمر الإيثار. · بعُلو الهمَّة والعزيمة وحبُّ النفع لكل الناس. ثمرات الإيثار.. · الفوز بثناء الله تعالى على أهل الإيثَار، وجعلهم مِن المفلحين. · الحصول على محبَّة الله تعالى، ومحبة الناس. · كمال الإيمان لا يتحقق إلا بالإيثَار. · الإيثَار يدفع المرء إلى غيره من الأخلاق الحميدة كالرَّحمة وحبِّ الغير. · بالإيثار تحصل البركة في كل شيء. · الإيثَار دليل واضح على وجود التَّعاون والتَّكافل في المجتمع.