محسن عوض الله منذ انطلاق الثورة السورية تحولت أرض الشام لساحة كبيرة من الحرب بالوكالة بين قوي إقليمية تبحث عن مصالحها من خلال دعم الأطراف المتنازعة.
بدا الموقف التركي واضحا منذ اليوم الأول للثورة داعما لتطلعات الشعب السوري فى التحرر من الاستبداد والطائفية التى طبعت سلوك النظام لعقود عديدة.
لم تتوقف تركيا عن المطالبة فى كل مناسبة برحيل نظام الأسد وسعت لذلك مرارا وتكرارا وقدمت كل الدعم السياسي والعسكري المطلوب لمساعدة المعارضة المسلحة الموالية لها على مواجهة قوات النظام.
تركيا التى يصنفها الإسلاميون العرب على أنها دولة بمرجعية إسلامية ويعتبرها الإخوان جزءا من التنظيم الدولي للجماعة، كان طبيعيا أن تميل فى دعمها للمعارضة الإسلامية، وظهر ذلك فى دعمها للجيش الحر الذي يسيطر على الإخوان المسلمين (بشهادات من عناصر استخباراتية منشقة عنه).
ورغم الدعم الكبير الذي تلقاه الجيش الحر من تركيا وغيرها، ظل عاجزا عن تحقيق تقدم ملموس فى الساحة السورية فى ظل سيطرة داعش والنصرة على مشهد المعارضة الإسلامية المسلحة وسط اتهامات متلاحقة من قوى دولية لأنقرة بدعم هذه الجماعات.
لم يكن يوم 11 أكتوبر 2015 يوما عاديا فى تاريخ الصراع السوري، حيث شهد ذلك اليوم ميلاد قوة جديدة استطاعت تغيير الموقف الدولي وتحديدا التركي من الوضع السوري.
فى ذلك اليوم تم الإعلان عن تأسيس قوات سوريا الديمقراطية كذراع عسكري للقومية الكردية، هكذا اشتهرت رغم أنها تضم العديد من المكونات السورية من عرب وسريان وتركمان.
خلال شهور قليلة أصبحت قوات سوريا الديمقراطية التى ضمت أكثر من 27 لواءً عسكريًا وجناحًا مسلحًا، رقما صعبا فى المعادلة السورية بعد أن انضمت للتحالف الدولي لمحاربة داعش وأصبحت تحظى بدعم أمريكي كبير، وشارك الكثير من العسكريين الغربيين فى تدريب عناصرها بصورة جعلتها تحقق انتصارات عديدة فى مواجهة الإرهاب، ونجحت بالفعل فى تحرير عدة مدن سورية من تنظيم داعش، لعل أبرزها عين العرب كوباني ومنبج.
تزايد النفوذ الكردي بسوريا مع استمرار النجاحات العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية أثار مخاوف قوى إقليمية على رأسها تركيا، وبدأت الاتهامات تكال للأكراد، وتحديدا بعد تحرير منبج من داعش بمحاولة فرض واقعي ديموغرافي جديد بالمدينة وتنفيذ تهجير قسري للسكان العرب، وهو ما نفته القيادات الكردية مرارا وتكرارا وأعلنت عن استعدادها للقبول بلجنة تحقيق فى الاتهامات.
كما سعت تركيا لتفجير البيت الكردي من الداخل ووثقت علاقاتها بمسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، المعروف بمواقفه المعادية لأكراد سوريا، كما دعمت المجلس الوطني الكردي المناهض لحزب الاتحاد الكردستاني.
بعد الانقلاب التركي الفاشل، لم يجد أردوغان من يحنو عليه سوى الدب الروسي "بوتين"، فى حين اكتفت الدول الأوروبية بتوجيه انتقادات وتحذيرات لأردوغان من سياساته الانتقامية تجاه الانقلابيين، وهو ما دفع وسائل إعلام تركيا للتلميح والتصريح بتورط واشنطن وقوى غربية فى دعم الانقلاب.
الموقف الروسي من الانقلاب أذاب الجليد بين أنقرةوموسكو ودفع أردوغان للارتماء فى أحضان الدب الروسي متجاهلا كل الخلافات والتهديدات المتبادلة بين البلدين على خلفية إسقاط تركيا طائرة روسية فى سوريا.
كان للتقارب التركي الروسي تأثير كبير فى الوضع بسوريا نظرا لأن موسكو تعتبر أكثر اللاعبين تأثيرا فى المشهد السوري لما تمتلكه من علاقات ونفوذ على النظام والمعارضة بمختلف توجهاتها.
بعد ساعات قليلة من اجتماع بوتين مع أردوغان والإعلان عن قمة روسية تركية إيرانية، وقعت مواجهات بمدينة الحسكة السورية بين قوات النظام والقوات الكردية رغم وجود ما يمكن وصفه بالسلام البارد بين الطرفين والاتفاق غير المعلن على سماح النظام بقيام إقليم كردي بشمال سوريا يتمتع بنوع من الحكم الذاتي "الإدارة الذاتية فى روج أفا".
كانت اشتباكات الحسكة تتويجا للتحول فى الموقف التركي والرضوخ للرؤية الروسية لحل الأزمة التي تؤيد بقاء بشار الأسد على رأس النظام، وهو ما ظهر فى تصريحات يلدريم، رئيس الوزراء التركي، التي اعتبرت لأول مرة أن الأسد جزء من الحل وليس المشكلة عكس الرؤية التركية منذ اندلاع الثورة 2011.
وفى الوقت الذي كانت الحسكة تشتعل بين النظام والأكراد، سحب النظام التركي بعض عناصر المعارضة الموالية له حلب ونقلها إلى مدينة جرابلس على الحدود السورية التركية تمهيدا لتحريرها من داعش.
نجاح القوات الكردية فى طرد النظام من الحسكة والسيطرة على مقراته، دفع تركيا للتدخل بشكل مباشر فى الشمال السوري وإطلاق عملية عسكرية أسمتها "درع الفرات" لمواجهة خطر داعش والتنظيمات الكردية المسلحة التي تعتبرها تركيا تنظيما إرهابيا، بحسب البيان التركي.
بالتأكيد لا يمكن لتركيا الإقدام على خطوة التدخل العسكري البري فى سوريا دون تنسيق مع النظام السوري ورعاته الرسميين موسكو وطهران، ولا يمكن اعتبار تنديد دمشق بالخطوة التركية إلا تغطية على الاتفاق الواضح لكل ذي عينين.
أعتقد أن خطوة التدخل التركي بسوريا مغامرة أردوغانية غير مدروسة سيكون لها تبعات ثقيلة على الجيش التركي الذي لم يفق بعد من صدمة 15 يوليو.
الشمال السوري لن يكون نزهة خلوية للجيش التركي، والقضاء على حزب الاتحاد الكردستاني ليس بالسهولة التي يتوقعها أردوغان، خاصة أن الدولة التركية فشلت خلال ما يقرب من 30 عاما أو أكثر فى القضاء على حزب العمال الكردستاني.
التخوف من النفوذ الكردي وحلم إنشاء الدولة قد يكون مبررا تركيا مقبولا، ولكن كيف لأنقرة أن تدعم الحكم الذاتي لأكراد العراق وتحارب رغبة أكراد سوريا فى تحقيقه؟!
اعتقد أن فكرة القضاء على الأكراد أصبحت حلما بعيد المنال، وما حدث فى سايكس بيكو لا يمكن تكراره بعد أن خرج المارد الكردي من محبسه وأدرك قوته وحظي بقبول دولي، وبالتالي فإن أولى خطوات الاستقرار بالشرق الأوسط هي الاعتراف بحق الأكراد فى الحياة وفق استراتيجية تراعي طبيعة المنطقة وظروفها وتحفظ للكرد خصوصياتهم وحقوقهم التاريخية.