اليوم وليس بعد.. هنا .. وما أدراك ما هنا .. هنا مملكة التأمل ومنطقة التفكير.. ومحطة الفهم. إن فَهِمنا فقد فَهِمنا لأنفسنا وإن لم نفهم .. فالحياة سجال ، تنال منا وننال منها وحتما سنفهم.. حتما سنرى ونعرف (لكل نبأ مستقر) (الأنعام 67) ، ومع تعاقب الليل والنهار تتقلب أيامنا بين العذاب والللذة .. وبين الخوف والطمأنينة ، ويبقى الأهم هو البحث واصطياد الحكم بين طيات سنوات تمر.
وكم هى محيرة تلك الحياة بما يكتنفها من ألغاز وأسئلة ، وما يعتريها من قبض وتنغيص .. لكننا حفظناها عن ظهر قلب وعهدناها وألفناها ، فأصبحنا نشتم رائحة البلايا قبل وقوعها ،ليس تشاؤما وإنما حدسا اكتسبناه جراء المحن وحيال الأزمات .
هذه الحياة بشكلها المعهود هذا ، ليست إلا خطابا موجها ، ونداء علويا يتردد في الآفاق كل صباح ، ويصدع جليا مع ترانيم كل مساء ، وإذا كان الأنبياء قد سمعوا ورأوا .. فمنهم كليم ومنهم مقرب وحبيب ، فنحن كذلك نتلقى من رسائل القدرة كل يوم ما يربت على قلوبنا ، ويحتضنها دفئا ، ويملؤها أمنا وسكينة وعندما طلب موسى عليه السلام من ربه أن يراه ، رد عليه بحكم جبري على كل البشر فقال له : لن تراني ..ليحسمها الله ويفتح في ذات التوقيت مجالا آخر للرؤية والمعاينة والتبصر فقال : ولكن انظر إلى الجبل.
وليس من سمع كمن رأى، هكذا عَوَّد الإنسان نفسَه ألا يطمئن لشىء لم يره بعينيه، لذلك كانت حاسة الإبصار الأهم من بين الحواس الخمس، بل إنها كانت محور ارتكاز فى تاريخ رسالات الأنبياء، حينما ارتبطت معجزاتهم بخوارق بصرية مشهودة لا مجال لتكذيبها•كذلك، حينما عوَّل مكذبو الرسالات على حاسة البصر فى إيمانهم واعتبروا الرؤية والمعاينة شرطاً لذلك، حتى وصل التبجح بهم أن طلبوا من نبى الله أن يريهم ربه جهراً !!وفى حقيقة الأمر، يعتبر البصر وما تدركه العين باباً كبيراً نحو إدراك الإله•• والتيقن من وجوده، وليس ذلك مقصوراً على أيام المعجزات الظاهرة وخوارق الأنبياء فحسب، بل إن البصر والإدراك بالعين أحد سبل الإيمان المهمة التى أقرها الإسلام فى رحلة الإيمان بالله(ألم نجعل له عينين ) (البلد 8).
ونحن دائما نتوق لنعرف•• لنكتشف السر•• لنذيب الحاجز الشامخ بيننا وبين المجهول وعالم الحقائق والثبوت، وتلك هى لذة الإيمان وحلاوة الاقتراب ، والاكتواء بنار البحث ، حيث تزول الحجب شيئاً فشيئاً أمام المريد ، ويتلقى كل يوم إجابة عن سؤال وكشفاً لمجهول.
إن قوة الإيمان، وتفعيل معناه الحقيقى، إذا تعلق بغيبى غير مشهود، وهذه هى عظمة الله أن حجب ذاته عن العيون، وتعالى عن المشاهدة والإدراك، فهو يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار.
إذن فأعيننا الآن خلقت لتدرك عالم الحقيقة والشهود والثبوت، حتى تنتقل هذه العيون لتدرك حياة أخرى ، لا مجال للسِر فيها، ولا حُجب ولا أستار. وماذا بعد التجلى الأعظم ورؤية الحق فى معارج النور وبهاء العزة.. هل بعد هذا سر؟! وهل بعد النور نور؟! وهل بعد الوصول طريق؟! فهنا وعند هذه النقطة العظيمة فى تاريخ الحياة والبشر، ينتهى دور القرار الإلهى ) لن ترانى) ، وتبدأ مرحلة، أخرى يتبدى فيها الدور الأعظم للبصر وتصبح (العين) هى البوابة، التى تختم مرحلة العذاب والشقاء والمعاناة مؤذنة بحياة جديدة لا عناء فيها ولا كدر. ولهذا فقد أخبر الإله العظيم عن نفسه ، ولم يكتف بتركنا نبحث ...
لم يدعنا نهبا لتفسيراتنا وتأويلاتنا للكون المشهود من حولنا ، بل أفصح عن ذاته العلية فقال : أنا الله ...أنا ربكم وحينما اختار الله موسى عليه السلام ليكلمه ويتلقى كلماته المقدسة على بقعة فريدة وزمان فريد افتتح كلامه العظيم بكلمات التعريف حتى لا يخاف ، فقال بصوت القدرة التى تمتلء نبراته بالهيبة : (يا موسى إني أنا الله رب العالمين) (القصص30).