الرأسمالية العقارية تقود التنمية فى مصر متحالفة مع رأس المال الخليجى والأجنبى - ثلاثة أنظمة حكمت مصر آلت بها لأن تخضع طبقتها البرجوازية لبيع تراثها للحفاظ على مكانتها الاجتماعية - ورثة فيلا أتيليه الكتاب والفنانين: الإيجار الشهرى لفيلا مساحتها 1800 متر 300 جنيه هل أصبح الوطن مرهونا بالفعل؟ هل أفلست طبقة رئيسية فى هذا المجتمع ولم يعد أمامها سوى بيع تراثها وماضيها لتظل فوق السطح؟ وهل أمسينا ضحية سياسات تعاقبت على هذا الوطن بحيث أصبح مرتبكا لا يملك التمييز بين ما هو تراب وما هو تراث؟ فى الحقيقة لا يمكن أن تكون الإجابة هنا بحال من الأحوال تونس! بل هى وبكل أسف مصر. لقد أطلت علينا منذ أيام قليلة قضية فيلا آتيليه الإسكندرية تلك الفيلا الواقعة بمنطقة الحى اللاتينى وهى قضية يمكن بالفعل اتخاذها كنموذج تجسدت فيه كل مظاهر الفساد فى هذا المجتمع المعاصر بل يمكن اعتبارها شاهدا حيا لما حدث من تدهور طبقى وانحسار ثقافى لمجتمعنا ككل، حيث ظهرت مجموعة من الفلل التراثية الأخرى يسعى أصحابها لهدمها وبناء أبراج سكنية فوقها مثل فيلا "شيكوريل" المنسوبة لعائلة ديفيد شيكوريل صاحب محلات شيكوريل الشهيرة. القضية كما تبدو على السطح ..فيلا مساحتها تبلغ 1807 أمتار مربعة وفقا لما جاء على لسان محامى الملاك الأصليين "محمد جابر".. الذى تمكن من الحصول على قرار إزالة لمرسم خاص بالأتيليه داخل حديقة الفيلا بناه رواد الأتيليه حديثا على إثره توجه المحامى مباشرة مع قوة أمنية لمداهمة الفيلا العريقة مما أثار غضب المثقفين وأعلنوا مباشرة الاعتصام بداخلها وتداولت وسائل الإعلام الأمر باعتباره تكرارا لمسلسل الراية البيضاء الشهير. «الأهرام العربى» ترصد بعدسة الواقع تلك الإشكالية العجيبة التى تسببت فيها للأسف أنظمة متعاقبة.. فمن قرب سنجد أن الفيلا تقع فى منطقة الحى اللاتينى أحد أرقى أحياء الإسكندرية الفيلا مستأجرة من قبل جماعة الفنانين والكتاب تأسست عام 1933 على يد محمد ناجى رائد التصوير، متخذا من شارع فؤاء الشهير مقرا لها لينتقل مقرها إلى جوار سينما أمير بمحطة الرمل واستقر أخيرا مقر الجماعة فى فيلا الحى اللاتينى حسبما يروى لنا المصور الشاب "محسن عبدالفتاح" فى منتصف الأربعينيات تقريبا وضمت الجماعة مجموعة كبيرة من الفنانين المصريين والأجانب منهم على سبيل المثال الفنان "جاستى" ...كان المالك الأصلى للفيلا هو بنك "سان باولو" الايطالي..و بيعت الفيلا مرتين، آخر مرة كانت لوالد الورثة الحاليين فى العام 1966وبعد وفاة المالك الأخير تقوم جماعة الفنانين بسداد إيجارها الشهرى للمحكمة كضمان لحقوقهم . الستينيات وفساد جهاز الدولة تميزت حقبة الستينيات التى اشترى فيها رجل الأعمال صاحب مصنع البلاستيك"مصطفى على حسن"، بعدة ميزات يحدثنا عنها الخبير الاقتصادى إلهامى الميرغنى، يقول الميرغنى: جاءت ثورة يوليو لتغير الكثير من الأنماط السائدة وتطرح رؤية تنموية تعتمد على الزراعة والصناعة، وركزت الثورة على التعليم والصحة فأحدثت نقلة كبرى زادت من حجم الطبقة الوسطى وتمتعها بمميزات لم تتوفر لها من قبل، لكن نظام يوليو كان يخاف الحريات الديمقراطية ويعتمد على أهل الثقة فى المناصب العامة وليس أهل الخبرة، لذلك تطور الأمر من مجرد تعيين بعض ضباط الجيش كوزراء ورؤساء مؤسسات وهيئات عامة إلى شريحة كاملة من الرأسمالية البيروقراطية التى تحقق ثرواتها وتراكمها الرأسمالى من خلال الاستفادة من فساد الدولة البيروقراطية. ثم جاء السادات ليضرب مشروع التنمية المعتمد على الدولة ويعيد الأرض للإقطاعيين ويفتح أبواب الاستيراد على مصراعيه، وتنفتح مصر أمام رأس المال الأجنبى الذى تم تمصيره وتأميمه عبر سنوات من 1955 إلى 1963. وانتشرت خلال هذه الفترة الأنشطة ذات الطابع الطفيلى مثل استيراد اللحوم الفاسدة، وعرفت نماذج بنت ثرواتها من أنشطة غير مشروعة على رأسها تجارة المخدرات، بينما توارت صناعات وطنية أخرى كثيرة. وتدهور وضع الطبقة الوسطى. تآكل الطبقة الوسطى فى الحقيقة فإن مالك الفيلا لم يقترب على الإطلاق منها ولم يحاول إخراج مستأجريها حتى جاء عهد المخلوع "حسنى مبارك" فى حقبة الثمانينيات، فتقدم بعرض بأن ينقل جماعة الكتاب إلى فيلا أخرى بمنطقة سموحة، أو يعوضهم ماديا مقابل ترك الفيلا، لكن العرضين قوبلا بالرفض.. فاستسلم المالك وشريكه رجل الأعمال الصغير أيضا. وفى لقاء جمعنا مع "عزة مصطفى حسن" الابنة الكبرى للمالك الرئيسى لفيلا الأتيليه، وهى مهندسة وتعمل مديرة للدبلومة الأمريكية بالأكاديمية العربية.. بدت عليه ملامح طبقة برجوازية غير متماسكة أعلنت منذ البداية رفضها التام لتشبيه قضيتهم بمسلسل الراية البيضاء، وقالت إن والدها كان يقدر الفن والفنانين، وكان يزور جميع معارض الأتيليه فى الستينيات والسبعينيات وأهدتنا صورة لها هى ووالدها فى أحد معارض الأتيلية. كما أكدت أن والدها حاول فى الثمانينيات الحصول على الفيلا، لأنه كان يحتاجها بالفعل.. وتضيف عزة أنه أن الفيلا لم تعد كما كانت بسبب إهمال رواد الأتيليه والمستأجرين لها وتعديهم الدائم على حديقة الفيلا بدون وجه حق، وأن ما قاموا به هو مجرد إزالة للتعديات غير القانونية.. وتضيف عزة أن مستأجرى الأتيليه فى فترة التسعينيات عندما استشعروا بالخطر، ومن خلال نفوذهم وعلاقتهم بوزير الثقافة فاروق حسنى قاموا بتسجيل الفيلا كفيلا أثرية وتستنكر عزة أن هناك فيللا أثرية تم هدمها بالفعل، ولم تلق مثل هذه الضجة الإعلامية.. واستشهدت بفيلا الأميرة فاطمة التى تقع فى منطقة زيزينيا على البحر.. التى يعلو واجهتها إعلان كبير عن إنشاء فندق سياحى. وفى ملمح آخر نرصده فى قضيتنا وهو محامى الورثة "محمد جابر" اعترف بداية بأنه بالفعل قام برفع دعوى طرد للغصب على جماعة الأدباء والفنانين مؤكدا بأن الجماعة ومجلس إدارتها الحالى لا يملك عقد إيجار، وتحدث عن مجموعة ثغرات يستند إليها، منها على سبيل المثال أن الجماعة قامت بتسجيل الفيلا باعتبارها أثرا بالخطأ، لأنها مبنية منذ عام (1925)، وليس كما قال أعضاء الجماعة بأنها تأسست عام (1893)، مؤكدا أنه يسعى جاهدا لإثبات ذلك. وأضاف أنه قد صدر قرار من وزارة الآثار قسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة فى عامى 2012 و2013 بتعويض الورثة، باعتبار أن الفيلا أثرية، وهو ما يرفضه هو والورثة، مؤكدا أن الفيلا من حقهم وأنه لن يتنازل عن ذلك الحق واستنكر قائلا: كيف لفيلا قيمتها مائة مليون يكون إيجارها 300 جنيه شهريا، وهنا يلتقط طرف الحديث المصور محسن عبد الفتاح، والذى يؤكد بأن تاريخ الفيلا مدون على السور الحديدى المحيط بالفيلا والمسمى "بالفبريكة الإيطالية"، حيث كتب عليها تاريخ"1893"، ويضيف عبد الفتاح أن نفى المحامى كون الفيلا أثرية هو دليل قاطع على نية ملاكها على هدمها. مبارك والرأسمالية العقارية بالفعل عبرت كلمات عزة الوريثة الشرعية لفيلا الآتيليه عن واقع معاش يحتاج لتشخيص وتحليل علينا أن نجد له الحل، ويصف الميرغنى متحدثا عن حقبة الثمانينيات وتطورها قائلا: جاء الرئيس المخلوع مبارك بخطة واضحة المعالم تعتمد على تدمير كل الموارد والطاقات الإنتاجية المتاحة، خصوصا فى الزراعة والصناعة لتدخل مصر عصر اقتصاد الخدمات وزيادة نفوذ الكمبرادور وكلاء الشركات الأجنبية - وزيادة الاعتماد على الخارج فى استيراد كل ما تحتاجه مصر ولا تنتجه. وخلال 30 سنة تم تجريف الأرض الزراعية والبناء على 1.2 مليون فدان من أخصب أراضى الوادى والدلتا وبيع المصانع والشركات والبنوك المملوكة للدولة وفتح الأبواب أمام رأس المال العربى والأجنبى. وتتميز الحقبة المباركية بتزاوج الرأسمالية المصرية والخليجية والأجنبية وصعود كبير للرأسمالية العقارية التى لا ترى فى مصر سوى أرض للبيع, وسادت رأسمالية السماسرة التى تبيع كل موارد مصر وتجعل من العقار مصدر ثروتها الرئيسى. لقد تم بيع المصانع المنتجة وتشريد عمالها لتباع كأراضى بناء، بل إن وزير الصحة حاتم الجبلى كان يسعى لبيع كل المستشفيات الموجودة على النيل مثل إمبابة والأقصر وأسوان ومعهد ناصر، بل والمواقع المتميزة مثل مستشفى الشاطبى. وبالفساد حصلت الشركات على تصاريح بارتفاعات غير مسموح بها وتمت مضاربات على أراضى الدولة وتحولت شواطئ مصر على البحرين الأبيض والأحمر إلى غابات إسمنتية مهجورة معظم شهور السنة . لقد حدث تزاوج بين الرأسمالية العقارية المصرية والرأسمالية العقارية الخليجية التى دخلت بمليارات الدولارات لتبنى سيتى ستار ومول العرب، وغيرها من المراكز التجارية والمنتجعات السكنية مثل الريف الأوروبى والسليمانية وغيرها. وتم هدم العشرات من المبانى الأثرية ليقام مكانها ابراج سياحية . ولعل مشروع القاهرة 2020 والذى أصبح 2050 مثال لذلك عندما تزال مناطق كاملة مثل مثلث ماسبيرو لتقام مكانه مدينة سياحية. فموقع الأوبرا التى احترقت تحول لجراج وموقع مبنى البستان التاريخى فى القاهرة تحول أيضا لجراج. بيت المرحوم شريف باشا صبرى تم هدمه وبناء فندق على أرضه أمام المريديان، وكان مسجلا فى كلية البوزار فى باريس كقيمة معمارية على مستوى العالم، والنوع الثانى يتمثل فى المبانى التى شهدت أحداثا تاريخية مهمة بصرف النظر عن مستواها المعمارى مثل قصر الزعفران، الذى تم فيه توقيع معاهدة 36، وبيت سعد باشا زغلول وبيت طه حسين راماتان. كذلك بيت أم كلثوم الذى تم هدمه وإقامة برج سكنى مكانه. هكذا أصبحت الرأسمالية العقارية هى التى تقود التنمية فى مصر متحالفة مع رأس المال الخليجى، وهى تبيع وتشترى كل الأراضى . ولو تأملنا مشروعات مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى من العاصمة الجديدة إلى برج الشيخ زايد إلى مدينة اليخوت فى الساحل الشمالى سنجد الغلبة للعقار . أما الزراعة والصناعة فلا داعى لها طالما نستورد احتياجاتنا، وإذا كنا لا نملك سيولة فى القروض الأجنبية جاهزة حتى تفقد مصر كل مواردها الاقتصادية بفضل الحلف الطبقى الذى تقوده الرأسمالية العقارية التى لا تعرف قيمة الإنتاج بقدر ما تعرف قيم العمولات والسمسرة. انحسار ثقافى إشكالية أخرى فجرتها فيلا الأتيليه، ففى الوقت الذى سارعت فيه مجموعة كبيرة من المثقفين والفنانين التصدى لحملات الإزالة المداهمة للفيلا واعتصام مجموعات كبيرة منهم وإقامة حفلات وفاعليات ثقافية لحظة بلحظة.. فقد عزفت مجموعة كبيرة أخرى عن الذهاب له وبدأت تظهر أحاديث عن هجرة الموهوبين والمثقفين والفنانين الحقيقيين للأتيليه وأنه هجرهم أولا فهجروه.. وبعيدا عن الحماس والاندفاع الشبابى يقول محمد مخيمر فى أواخر الثلاثينيات من العمر بأن الأتيليه مثله مثل بقية الأماكن الثقافية يعانى من الشللية والاستقطاب وفى كل مجال سواء التصوير أو القصة أو الشعر تسيطر عليه مجموعة معينة لعشرات السنين لا تتغير، مما جعل الحضور يكاد يكون منعدما لأى من فاعلياته فيبدو وكأنه مهجور من رواده.. أما كرم نوح، مدير عام بوزارة الثقافة فى الخمسينيات من العمر فيقول لقد مارس الأتيليه كثيرا سياسة التمييز ضد بعض المثقفين وعلى قدر ما قدم من فاعليات فإن هناك شريحة كبيرة لم تستفد منها الفنانون وجمهور المثقفين فقد كان وما زال الأتيليه أشبه بدار الأوبرا مقصورا على ذوى الياقات البيضاء. ويتفق معهما أسامة السحلى مدرس مساعد بفنون جميلة فى منتصف الأربعينيات.. معللا موقفه بالعزوف عن الوقوف مع حشود المثقفين داخل الأتيليه للدفاع عنه بأن الأتيليه لم يقدم له شيئا كأحد أفراد الوسط الثقافى برغم ارتياده له فى بداية مشواره الفنى فإنه سرعان ما ابتعد عنه لأنه لم يستطع أن يستوعب طاقته كشاب بشكل حقيقى.