رسالة تونس محمد مطر فسيفساء جديدة ظهرت خلال الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية في تونس، فقد انتظر التونسيون والمتابعون للانتقال الديمقراطي لحظات حاسمة برهن خلالها هذا الشعب عن إيمان لا محدود بالانتقال السلمي للسلطة، سباق الوصول إلى قصر قرطاج كان حلم جميع المترشحين، لكن ما حدث أسقط التوازنات وغير الخارطة السياسية، وأعاد إنتاج مراكز الثقل، خلال الأيام القليلة الماضية. لم تفاجئ نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية المتابعين المحللين والمراقبين، وجاءت كما توقع الجميع صراع حول الاستقطاب الثنائى الذى انحصر بين رئيس الوزراء الأسبق باجى قائد السبسى، حيث حصل على 43%، بينما حصل الرئيس المؤقت المنصف المرزوقى على 32.5%، وبذلك اتجهت الانتخابات نحو دورة ثانية قبل نهاية هذا العام، وقد بلغت نسبة المشاركة أكثر من 60% وهى نسبة أقل من الانتخابات البرلمانية. منذ الصباح الباكر يوم الانتخابات كانت المؤشرات تلوح كلها بأن الجو العام داخل البلاد قد تغيرت ملامحه، وبشكل واضح بدا هذا اليوم أنه لن يكون شبيهًا بغيره وأن البلاد تتجه رويدًا رويدًا نحو واقع جديد، وكأن الطبيعة تتحالف مع هذا الإحساس، انهمرت الأمطار التي غطت الشوارع والتي سبقتها حبات البرد الصغيرة الراقصة على رفوف النوافذ وأسقف السيارات وأسطح المنازل، إنه يوم جديد بملامح مغايرة وتعابير ليست معتادة، استفاقت البلاد وهي تتلهف أخبار الانتخابات الرئاسية لاختيار رئيس جديد هو الثالث منذ الاستقلال من بين 27 مرشحًا، تخلى 5 منهم عن السباق خلال الحملة لكن أسماءهم ظلت مدرجة على بطاقات الاقتراع. وقد اختتم المرشحون حملاتهم الانتخابية قبل يومين من بدء الاقتراع احترامًا للصمت الانتخابي، واختار حزب نداء تونس اختتام الحملة الانتخابية لمرشحه الباجي قائد السبسي في مدينة نابل، بينما أنهى الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي حملته في مدينة حمام الأنف بالضاحية الجنوبية للعاصمة. الانتخابات التي تمت في أجواء إيجابية، جاءت على قدر عال من الالتزام والانضباط، الأمر الذي يؤكد بأن المواطن التونسي أصبح يتمتع بثقافة انتخابية مهمة، وهو في حد ذاته خطوة إيجابية تجاه فهم لعبة الديمقراطية والتي مكنت التونسيين للتصويت بحرية لاختيار رئيس الدولة. فمنذ الاستقلال عن فرنسا عام 1956، رحى الثورة عرفت تونس رئيسين فقط هما" "الحبيب بورقيبة" أن الاستقلال الذي خلفه رئيس وزرائه زين العابدين بن علي في نوفمبر 1987، والرئيس بن علي الذي حكم البلاد حتى 14 يناير 2011، تاريخ هروبه في أعقاب ثورة عارمة طالبت برحيله. الانتخابات أجريت وفق القانون الانتخابي والفصلين 111 والذي ينص على أن "ينتخب رئيس الجمهورية بالأغلبية المطلقة للأصوات المصرح بها، والفصل 112 والذي ينص على أنه في صورة عدم حصول أي من المترشحين على الأغلبية المطلقة من الأصوات المصرح بها في الدورة الأولى، تنظم دورة ثانية خلال الأسبوعين التاليين للإعلان عن النتائج النهائية للدورة الأولى يتقدم إليها المترشحان المحرزان على أكثر عدد من الأصوات في الدورة الأولى، ويتم التصريح في الدورة الثانية بفوز المترشح الحاصل على أغلبية الأصوات. وفي صورة تساوي عدد الأصوات بين عدد المترشحين يتم تقديم المرشح الأكبر سنًا أو التصريح بفوزه إذا كان التساوي في الدورة الثانية. انصبت كل العيون على الاسمين اللذين سيحظيان بالمرتبتين الأولى والثانية في الدورة الأولى باعتبار أنهما سيتمكنان من دخول المنافسات إلى الدور الثاني. واقع الأمر لم يبد التونسيون ارتياحًا بسبب انحصار المنافسات الرئاسية بين طرفين فحسب في تغيب يكاد يكون مقصورًا لبديل ثالث قد لا يحمل المواصفات نفسها للمرشحين اللذين ذهبا إلى الشوط الثاني، وهما الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي. وليس سرًا أن غياب "حركة النهضة" بدا واضحًا وقد أثار جدلاً كبيرًا حيث اعتبره البعض خطة للاتفاق مع الرئيس المنتصر أو مراوغة سياسية، بينما عده مناصرو الحزب إضاعة لفرصة تدارك الانتخابات التشريعية. وفي هذا السياق فقد أكدت مصادر مطلعة بالحزب أن الحزب اتخذ موقفًا واضحًا من الانتخابات الرئاسية، وقرر منذ البداية عدم التقدم بمرشح من داخل الحركة أو تقديم الدعم لأي مرشح رئاسي من خارجها، وذلك بعد سلسلة طويلة من المشاورات السياسية والحوارات المستفيضة داخل هياكلها المنتخبة بهدف عدم التسبب في تقسيم التونسيين، وبالتالي تفادي الاستقطاب الثنائي بين حركة النهضة وحركة نداء تونس. وإذا كانت حركة النهضة لم تقدم أو تدعم مرشح بعينه إلا أن حمادي الجبالي رئيس الحكومة التونسية الأسبق والأمين العام السابق لحركة النهضة وأحد أبرز عناصرها قد دعا إلى انتخاب رئيس لتونس ينتمي لحزب آخر غير حزب الأغلبية في مجلس نواب الشعب، معللاً ذلك بأن الثورة مازالت مهددة بالارتداد والعودة إلى أنماط متجددة من الهيمنة هيمنة الحزب الواحد، وأكد أنه من الصعب تحقيق التوازن بين السلطة السيادية بالدولة في إشارة إلى فوز حركة نداء تونس بالانتخابات التشريعية في المقابل فإن الباجي قائد السبسي الذي فاز بالأكثرية في الانتخابات التشريعية ركز في حملته الرئاسية على "إعادة هيبة الدولة" ولقى هذا الخطاب صدى لدى فئات عريضة من التونسيين الذين أنهكتهم حالة عدم الاستقرار التي تعيشها البلاد منذ عام 2011، ويقول أنصاره إنه الوحيد الذي تمكن من الوقوف بوجه الإسلاميين، وأن هناك كيمياء خاصة جعلت من الحزب الذي أسسه الباجي قائد السبسي يصبح كبيرًا في وقت قياسي، ويحتل الجزء الأكبر من هذا الموقع ولعل العنصر الأساسي الذي جعل هذا الانتصار النسبي ممكنًا اليوم هو تجربة حكم السبسي بعد الثورة لا قبلها، هذه التجربة هي التي جعلت جزءاً من التونسيين يثقون في السبسي ويعتبرونه قادراً على تضميد جراحات تونس بعد الثورة، ولقد تعمقت هذه الفكرة خاصة بعد فوز الإسلاميين وحلفائهم عام 2011 فأضحت ممهدة لنجاح الحزب السبسي حتى قبل تأسيسه. أما منتقدو الرئيس المنصف المرزوقي، فيرون أنه وبعد 3 سنوات ظل قابعًا في قصر الرئاسة في قرطاج فقد أخفقت بلاده في سياستها الخارجية نتيجة لقراراته المثيرة للجدل في علاقات تونس بالعديد من العواصم الدولية والعربية وعلى رأسها دمشقوالقاهرة والجزائر وعواصم خليجية أخرى، والمرزوقي وفي تعقيبه على الانتقادات الكثيرة التي وجهت إليه بخصوص قطع العلاقات مع دمشق قال بلهجة التحدي: "لو كان علي أن أنظر في الملف مجددًا لاتخذت نفس القرار، أي قطع العلاقات مع النظام السوري بسبب حجم المجازر التي ارتكبها ضد شعبه". لكن معظم المرشحين لانتخابات الرئاسة وعلى رأسهم السبسي ووزير الخارجية الأسبق كمال مرجان ركزوا في حملتهم الانتخابية على انتقاء هذا القرار، وقالوا أنه سبب إلحاق ضرر بمصالح جالية تونسية كبيرة في سوريا، واتهم بعض المنافسين المرزوقي بأن قراره خلط بين "صفته الحقوقية ومسئولياته كرجل دولة" كما تعهد معظم المرشحين بأن "تكون إعادة فتح السفارة التونسية في سوريا أول قرار يتخذونه فور تسلمهم لمهامهم في حال الفوز". لكن البعض يرى أن الملف الأكثر دقة وخطورة في السياسة الخارجية والذي قد يتطور بسرعة إذا أفرزت الانتخابات في الدور الثاني المقرر انعقاده قريبًا المرزوقي كرئيس للبلاد. هو ملف العلاقات مع القاهرة وبعض العواصم الخليجية الأخرى، فقد مرت تلك العلاقات بمراحل فتور وتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي في أعقاب تصريحات صدرت عن المرزوقي في الأممالمتحدة، وأخرى أمام البرلمان الأوروبي في بروكسل انتقد فيها الأوضاع بعد 3 يوليو وطالب بالإفراج وعودة الرئيس المخلوع محمد مرسي. لكن بعض المرشحين البارزين وعلى رأسهم السبسي تعهدوا ب"تطوير العلاقات مع كل دول الخليج وتجويد العلاقات تحديدًا مع مصر". ورغم تنوع البرامج والاختلاف حول الشئون السياسية، فقد اجتمع تقريبًا معظم المرشحين بضرورة تطوير وتجويد علاقات تونس الخارجية عربيًا ودوليًا. أما الملفان الاقتصادي والاجتماعي، رغم أنهما لا يدخلان في صلاحيات رئيس الجمهورية، فإنهما كان أحد أبرز المحاور التي ركز عليها معظم المرشحين للرئاسة في حملاتهم الانتخابية، حيث استخدموهما بشكل مفرط نحو الفئات المهمشة والتعهد بتحسين ظروف عيش التونسيين. لكن العديد من المختصين يرون أن المرشحين حاولوا استثمار، هذا الوضع، واللعب على تطلع ورغبة التونسيين في تغيير هذا الوضع الصعب، وأن أقصى ما يمكن لرئيس الجمهورية فعله في غير مجال اختصاصه وصلاحياته هو التقدم بمبادرات يجب أن تحظى أولاً بمصادقة الأغلبية النيابية في البرلمان التونسي. 5 ملايين تونسى شاركوا في الانتخابات و 900 ألف جندي للتأمين الانتخابات التي ذهب إليها أكثر من 5 ملايين تونسي حشدت لها المؤسسة العسكرية والأمنية أكثر من 90 ألف رجل أمن لتغطية كل مراكز الاقتراع ومختلف المنشآت الحيوية الحساسة، وقد عززت المؤسسة العسكرية عملها بمنظومة للتدخل السريع براً وجواً وبحراً تحسباً لأي طارئ، كما تم تعزيز هذه القوات بأكثر من 1600 عربة عسكرية و8 طائرات للنقل الجوي و12 مروحية عسكرية و 5 زوارق بحرية لنقل العسكرية والتأمين. وقد دعت « خلية الأزمة» التي يترأسها مهدي جمعة رئيس الحكومة التونسية إلى توفير المزيد من الاحتياطات التي جعلت المواطنين يذهبون بكل أمان وحرية إلى مراكز الاقتراع، وتضم خلية الأزمة وزراء الدفاع والداخلية والخارجية وكبار القادة الأمنيين والعسكريين وقد أكدت مصادر أمنية مطلعة « للأهرام العربي» إنه لمزيد من الاحتراز فقد تم إغلاق المعبرين الحدوديين مع ليبيا « رأس جدير « و « الذهبية» أمام المسافرين القادمين من ليبيا خلال العملية الانتخابية، وقد نشرت وزارة الداخلية العديد من صور إرهابيين مطلوبين للقضاء، معظمهم يحمل الجنسية التونسية وعناصر إرهابية أخرى من نيجيريا والجزائر وموريتانيا ومن بينهم الإرهابي الجزائري « خالد الشايب» المعروف باسم « لقمان أبو صخر» قائد كتيبة عقبة بن نافع المرابطة في جبال الشعانبي وسط غرب تونس، وتتهم السلطان التونسية الشايب بالوقوف وراء ذبح 8 عسكريين في صيف 2013 واستهداف 15 عسكرياً تونسياً بقذيفة في صيف 2014م وفيما له صلة بمكافحة الإرهاب فقد علمت « الأهرام العربي» أن « أفريكوم» القوات الأمريكية في إفريقيا سوف تبدأ في تقديم مساعدات بمبلغ 60 مليون دولار على شكل مساعدات عسكرية إلى تونس لمواجهة الإرهاب والتطرف وتتجسد هذه المعدات في آلات كاشفة للألغام والمتفجرات يدوية الصنع وقوارب جديدة تمنح لقوات البحرية التونسية بغرض تمشيط السواحل ومكافحة عمليات التعريب المرتبطة مع الإرهاب بالإضافة إلى الرعاية الطبية للعسكريين المصابين أثناء المواجهات المسلحة وتعزيز قدرات الجيش التونسي على مواجهة المخاطر الإرهابية من خلال المشاركة في تدريبات مشتركة. وعلمت « الأهرام العربي» أن هذه الاتفاقية قد تم توقيعها منذ أكثر من شهرين عند زيارة ديفيد رودريغيز « قائد الأفريكوم» ولقائه مع مهدي جمعة رئيس الحكومة التونسية الذي أكد على أن الولاياتالمتحدة في نفس الخندق مع تونس لمواجهة الإرهاب والجماعات المتطرفة، وليس سراً أن واشنطن قد مكنت تونس من مساعدات متنوعة قيمتها المالية نحو 100 مليون دولار منذ ثورة 2011 كان أخرها المساعدات العسكرية المقدمة لتونس عبارة عن نحو 10 أطنان من التجهيزات الأمنية المتطورة تسلمتها وزارة الداخلية التونسية في أغسطس الماضي. الانتخابات التي لم تشهد حالات عنف أو قتل شهدت حالات تهديد بالقتل لبعض المرشحين أخذتها وزارة الداخلية على محمل الجد، وعززت عمليات حماية كل المرشحين، حيث أقر سليم الرياحي رئيس حزب الاتحاد الوطني الحر الفائز بالمرتبة الثالثة في الانتخابات البرلمانية ب 16 مقعداً بتلقى تهديدات مباشرة تستهدف حياته صادرة من تنظيم أنصار الشريعة المحظور، وأيضاً من تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، مما جعل قوات الأمن تطلب منه تغيير مكان إقامته والسيارة التي تقله وإدخال تعديلات على برنامج حملته الانتخابية، لكن هذه التهديدات لم تمنع مرشحي الرئاسة من مواصلة حملتهم الانتخابية عبر زيارات ميدانية واجتماعات شعبية. وأبدى رئيس البرلمان والمرشح الرئاسي مصطفى بن جعفر تخوفه من ظاهرة المال السياسي ومن استغلال الأئمة في الحملة الانتخابية وقال إن هذا أمر مرفوض وأكد أن المواطن التونسي مهموم بالبطالة أكثر من أي شيء آخر وقد انسحب عدة مرشحين لعل أبرزهم الوزير الأسبق عبد الرحيم الزواري ومحمد الحامدي الأمين العام لحزب التحالف ثم نور الدين حشاد وأخيراً مصطفى كمال النابلي الذي طرح مع انسحابه تساؤلات وجدلاً عن تفاهمات ربما قد تمت مع باجي قائد السبسي بغرض تجميع أصوات الناخبين على أن تسند للنابلي مهمة وزارية في الحكومة المقبلة الشارع التونسي الذي كان منشغلاً بسخونة الانتخابات استقبل عودة سليم شيبوب صهر الرئيس التونسي الأسبق بكثير من التعجب والسخرية والتخوف من عودة رموز النظام السابق إلى المشهد السياسي خصوصاً بعد عودة سابقة للمنذر الزنايدي أحد أكثر القيادات السياسية تنقلاً بين الحقائب الوزارية أيام بن علي، ودافع أنصار شيبوب عن هذه العودة بالإشارة إلى وجود ضمانات قانونية في تونس وقضاء مستقل ينظر في القضايا دون النظر إلى أسماء المتهمين.الانتخابات التي خيم عليها الهدوء شهدت رقابة ومتابعة تونسية وإقليمية وعربية ودولية وكان أكثر من 30 ألف مراقب قد تابعوا مجريات عمليات الاقتراع. هكذا أفصحت الانتخابات الرئاسية ومن قبلها الانتخابات التشريعية عن معطيات جديدة مكرسة بشكل جدي وقاطع إرادة شعبية واسعة في قلب المشهد السياسي، غير أن المحطة القادمة بعد الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية ستكون محطة تشكيل الحكومة، وبرغم أن الأغلبية في البرلمان ستكون بين أيدي الندائيين وسيكون نداء تونس هو المكلف بتشكيل الحكومة فإن إعطاء الضوء الأخضر أمام هذه الحكومة في البرلمان لن يكون بأيدي نداء تونس وحده بل سيكون بالأغلبية المطلقة. ويقيني أن الشوط الثاني من الانتخابات الرئاسية لن يكون مقارعة برامج باعتبار الصلاحيات محدودة لرئيس الجمهورية دائماً ستكون نزالاً ولي ذراع بين القوى الكبرى في البرلمان أو اتفاقاً على تقاسم السلطات، وبات السؤال اليوم على كل الشفاه هو هل ستتحالف النهضة مع نداء تونس ؟ أو لاستعمال عبارات محببة إلى الطرفين هل سيتعاون الحزبان الكبيران على تسيير شئون الدولة أم ستتغير المعادلة السياسية .. هذا ما سوف تجيب عنه الأيام المقبلة ؟!