رشا عامر منذ عهد «جيسكار ديستان» والمقولة المأثورة على لسان الفرنسيين، هى أن إفريقيا هى القارة الوحيدة التى لا تزال فرنسا قادرة على تغيير مجرى التاريخ فيها، لأنها المنطقة الوحيدة فى العالم التى تذكر فرنسا فيها دائماً أنها لا تزال قوة عالمية عظمى! لذا لم تستطع فرنسا ولو ليوم واحد أن تنسى ارتباطها التاريخى بمستعمراتها الإفريقية ومصالحها السياسية هناك، والتى لا تزال تشكل أهم دوائر السياسة الخارجية لها، وهو ما ظهرت بوادره فى مالى وفى إفريقيا الوسطى منذ فترة ليست بالقصيرة. فإعادة تنظيم فرنسا لقواتها العسكرية فى الصحراء والساحل الغربى الإفريقى، ما هو إلا محاولة للوجود إقليميا بشكل أكثر قوة فى مواجهة نفوذ الدول الكبرى الأخرى، خصوصا الولاياتالمتحدة والصين وصراعها للاستحواذ على ثروات القارة السمراء، المتمثلة فى الثروات الطبيعية فى تلك المنطقة، بما فى ذلك اليورانيوم، الذى يستخدم فى إنتاج القنبلة النووية، فضلا عن الألماس والذهب .وقد بدأت مؤشرات ذلك منذ عدة سنوات عقب اعتماد الولاياتالمتحدة فى نصف احتياجاتها البترولية على النفط الإفريقى، الذى يمثل حوالى 8 إلى 10% من الاحتياطى العالمى، فضلا عن جودته العالمية باعتباره لا يحتاج إلى وقت طويل فى عملية التكرير، وأيضا قربه من موانئ التصدير الأوروبية. لذا حرصت فرنسا على إعادة وجودها العسكرى فى المنطقة، وعدم الاكتفاء بتقديم تدريبات أو دعم لوجيستى لجيوش الدول الحليفة فى المنطقة، بل بإعادة انتشار الجيش الفرنسى هناك والذى بدأ رسميا فى يوليو الماضى عقب لقاء فرانسوا أولاند بالرئيس التشادى إدريس ديبى، والتى أطلق عليها اسم العملية "بركان" والتى حلت محل العملية سرفال التى تكلفت 70 مليون يورو لا يتضمن شراء المعدات، لكن استخدامها بشكل أكثر كثافة من فترات التدريب! لم يكن التحول فى هذه العملية العسكرية بالشىء الجديد، لكن تم تأجيل الإعلان عنه منذ مايو الماضى بعد تصاعد التوتر فى دولة مالى، والتى وصفها وزير الدفاع الفرنسى بأن سيادتها على أراضيها لها انعكاسات مباشرة على أمن أوروبا وأمن فرنسا نفسها ..من هنا جاءت العملية بالشراكة مع خمس دول من إفريقيا، هى موريتانيا ومالى وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد باستخدام 3000 جندى فرنسى و20 طائرة هليكوبتر و 200 عربة مدرعة و 10 طائرات تكتيكية ونقل و6 طائرات مقاتلة و3 طائرات بدون طيار. لتصبح تلك هى الحرب الثالثة التى يخوضها فرانسوا أولاند فى القارة الإفريقية - والحرب الرابعة على المستوى العالمى - إبان سنوات حكمه الثلاث بدأها بحربه فى مالى فى 11 يناير 2013 ثم تلاها بحربه فى إفريقيا الوسطى فى 5 ديسمبر من نفس العام، ثم جاءت الحرب الثالثة فى سماء العراق فى 19 سبتمبر الماضى وهاهى الحرب الرابعة توشك على الاندلاع والتى كان من الممكن أن تصبح الحرب الخامسة عقب رغبته فى قصف سوريا بالقنابل عقابا لبشار الأسد على استخدامه أسلحة كيماوية لولا موقف كل من واشنطن ولندن! ليصبح أولاند بذلك أكثر الرؤساء الفرنسيين عشقا للحرب من سابقيه، ولتصبح عملية "بركان" أكبر مسرح للعمليات الفرنسية منذ الحرب العالمية الثانية. فمن الاحتلال والاستعمار العسكرى المباشر فى القرنين ال 18 وال 19 إلى إقامة قواعد عسكرية دائمة فى بعض الدول المركزية فى مختلف دول القارة، من جيبوتى شرقا، مرورا بتشاد، وإفريقيا الوسطى، فى الوسط، وصولا إلى السنغال، والكاميرون، وساحل العاج، والجابون غربا. استنادا إلى تأييد دولى ومحلي، بهدف ظاهري، وهو الهدف الإنسانى وآخر أساسى غير ظاهر، وهو تحقيق أهداف فرنسا، والحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية، ولكن بعيدا عن فكرة التدخل القسري، دون الحصول على الموافقات خصوصا المحلية حتى لا يتكرر سيناريو عملية «تركواز» الفرنسية فى رواندا عام 1994، والتى أدين فيها عدد من كبار السياسيين والضباط الفرنسيين، بينهم الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران المسئولية عن مجازر عرقية شهدتها البلاد بين الهوتو والتوتسي، وأدت إلى مقتل ما يزيد على 800 ألف شخص خلال ثلاثة أشهر. لذلك سعت فرنسا للحصول على تأييد الاتحاد الإفريقى ومجلس الأمن لتتدخل القوات الفرنسية فى مالى بعد سيطرة متمردين إسلاميين على مناطق فى الشمال، الأمر الذى جعل التدخل العسكرى الفرنسى يلقى ترحيبا كبيرا من السلطات فى مالى على أمل القضاء على الإرهاب دون الالتفات إلى المشروع الفرنسى الكبير لتغيير خارطة المصالح والثروات العالمية حتى لو كان ذلك ضد قناعاتها الأيديولوجية، حيث دعمت فرنسا العديد من القادة الأفارقة برغم عدم قناعتها بأدائهم فلا ننسى عندما حرمت ليبيا من المطالبة بحقوقها فى إقليم أوزو على الحدود مع تشاد كما دعمت الرئيس التشادى إدريس ديبى بعد سقوط نظام حسين حبرى عام 1990م . وتسعى فرنسا إلى تثبيت مركز قيادة العملية "بركان" فى نجامينا بتشاد، بالإضافة إلى قاعدة رئيسية أخرى فى مالى، أما باقى القواعد فهى قواعد فرعية ستحتل كلا من تشاد والنيجر وبوركينا فاسو، وذلك للحصول على المعلومات، وقد تم اجتيار قاعدة نجامينا لتكون أكثر كفاءة وأسرع تحركا لمواجهة تهديدات المتطرفين بفضل موقعها فى إفريقيا . فتشاد تقع فى مفترق طرق الأزمات الإقليمية والقوى الإرهابية وطريق تهريب المخدرات لجنوب ليبيا وبجانب نيجيريا، حيث تتمركز بوكو حرام.