محمد هلال رجل فى وسط البلد صاحب محل يبيع ماء زمزم. ذاك ما اكتشفناه وسط القاهرة. يبيع ماء زمزم؟ نعم وعلانية بل ينشر ذلك من خلال إعلانات المعروض للبيع، المسابح التى يذكر عليها اسم الله، والبخور و«التلبينة النبوية»، وهى طحين شعير كان يأكله الكافر والمسلم والذى بلا دين فى قريش وبلاد نجد والحجاز، بل وكل سكان الصحراء، ولا علاقة لها بوصفة نبوية أو صفية اللهم إلا تماحيك «أسلمة البيزنس»، حتى إن هناك قولا مأثورا: «ما ملأ النبى - صلى الله عليه وسلم - بطنه من طعام بر قط»، والبر بضم الباء تعنى القمح، فقد كان رفاهية فى ذاك الوقت، مثل الشعير فى أيامنا هذه، والذى نسميه تلبينة، ويأكله البعض حتى يمتلئ كرشه طاعة لله وقربى وحبا فى نبيه الذى كان يربط حجرا على بطنه من شدة الجوع، ويشبع يوما ويجوع يوما كما أخبرنا. وإلى جوار ماء زمزم المعروض للبيع كثير من الكتب التى تعدد فوائد ألبان الإبل وبولها وكيفية التداوى بها، والفوائد الصحية والدينية للمسواك، وكتاب أسرار الجرجير وتفسير مقولة: «لو علمتم ما فى الجرجير لزرعتموه تحت السرير»، وكثير من تلك الأشياء التى تتمحور وتتحور وتعيش حول العقيدة مثل الطفيليات والفيروسات أو الطيور التى تتغذى على بقايا الطعام فى أسنان التماسيح، ولا تنس أيضا المعروض من الملابس الحريمى الخاصة بالصلاة أو ما يسمى «الإسدال». دخلت محل بيع الماء، بعد أن لفت نظرى إعلان يقول: «يوجد ماء زمزم»، وفى الداخل رجل ذو لحية كثة وسيدة، وما إن بدأت السؤال عن الماء: بكم تباع «القنينة» الزجاجة؟ - فالمصريون يطلقون وصف الزجاج على عبوات البلاستيك فيقولون «إزازة مية»، حتى انصرف الرجل.. وجاوبتنى السيدة الطيبة والمسبحة تتأرجح بين أصابعها: إن سعر العبوة - التى هى بالكاد فى حجم كوب ماء عادى- خمسة عشر جنيها. قلت: ولكن يا حاجة هذا الماء يوزع بالمجان فى مكة كهدايا لزوار بيت الله الحرام، وأمارة ذلك أنه مكتوب عليه «تذكار من مكةالمكرمة»! ابتسمت وقالت: قل لنفسك.. واحد جاب لك مياه زمزم لحد عندك.. خسارة فيه 15 جنيها؟! قلت ولكن يا حاجة علماء الدين يقولون: إن بيع مياه زمزم حرام. ابتسمت ساخرة وقالت مستنكرة: حرام! ماء زمزم حرام؟ والفلوس ليست سعر المياه، هى مصاريف الشحن من السعودية، ولو كان حراما ما كانت السعودية تسمح بخروج هذه الكميات مع شركات السياحة. قلت لنفسى لائما: ليس لك أن تحلل وتحرم وأنت لست أهلا للفتوى، فتلك ظاهرة نعيب عليها الناس فكيف تفعلها، فلابد من سؤال أهل التخصص فى الأزهر الشريف، الدين الوسطى كما يقال. قال الشيخ محمود عاشور، وكيل الأزهر الشريف: للأسف الشديد نحن الآن مجتمع مفتوح، لا يسأل عن حلال أم حرام، وقال: أذكر أن كثيرا من الفتاوى كانت تحرم مجرد نقل ماء زمزم من مكة إلى المدينة، فكيف لنا ببيعها؟ وقال: صحيح ليس هناك نص بالحل أو الحرمة، لكن استغلال الناس بهذا الأسلوب لا يجوز أبدا، ولابد من «مجمع فقهى» لدراسة مثل هذه المستحدثات من الأمور التى ما كانت تخطر ببال أحد. أما الدكتور أحمد كريمة، الأستاذ بجامعة الأزهر، بدأ كلامه غاضبا وقال: أرجوك قل لهؤلاء الدكتور أحمد كريمة يقول لكم اتقوا الله. ثم هدأ قليلا وقال: إن ماء زمزم «مسبل» - يعنى سبيل مجانى وقف لله تعالى - منذ قديم الزمن، وهو من البيع المنهى عنه شرعا، حتى إن رباع مكة - أى الأرض التى بها وحولها - يكره بيعها شرعا كما ذكر ابن قدامة فى كتابه «المبرد». وقال: هذا الماء كما قلنا «مسبل» متاح لكل المسلمين ولا يجوز حتى للسعودية بيعه أو توصيله للمنازل. واتفق الشيخان عاشور وكريمة فى مقولة متداولة منذ عرف الحجيج جلب ماء زمزم معهم إلى بلدانهم تقول: إذا نقل ماء زمزم برغم أنه كما أخبرنا النبى وأثبتت الأبحاث العلمية ذلك، ماء زمزم لما شرب له، وقال: «هو طعام طعم وشفاء سقم» إذا نقل من مكانه فقد خاصيته وتميزه وأصبح ماء عاديا. تتوافق كلمات د. كريمة مع ما ورد وذكرته كتب التاريخ الإسلامى، فقد كانت الآبار التى يشقها الناس تباع وتشترى، لكن بئر زمزم لم يذكر فى حقها ذلك، لأنه ليس لها صاحب من البشر، حتى إن هاجر المصرية أم نبى الله إسماعيل أو العرب، عندما راودها قبيلة جرهم بشراء البئر أو جزء منه رفضت برغم أنها وحيدة ضعيفة وقالت هو للجميع شريطة عدم العدوان والاقتتال أو للاستحواذ عليه. نختتم بنداء الدكتور كريمة: اتقوا الله.. إلا ماء زمزم.