أحمد يوسف دعنى أوضح لك يا قارئى العزيز، منذ البداية، أنه ليس هناك خطأ مطبعى فى العنوان، لكن المقصود بالتحديد هو أن مهرجاناتنا السينمائية قد باتت أقرب إلى حفلات الأفراح والليالى الملاح، يمكن أن تجد فيها كل ما لذ وطاب إلا شيئا واحدا، هو – للأسف الشديد – السينما! حاولت أن أحصى عدد هذه المهرجانات التى تقام فى مصر، فعجزت ذاكرتى وربما معلوماتى أيضا عن الوصول إلى أعداد دقيقة، فقد أصبح الأمر بالنسبة لها هو أن «العدد فى الليمون». ولأننا فى زمن لم تعد الأشياء تُسمَّى بأسمائها الحقيقية، فقد ظهر أخيرا نوع من الثغاء (ولا نقول الغناء)، الناتج عن أصوات ولدت لتصدر كل أنواع النشاز، ناهيك عن تلاعب إلكترونى يجعل الأصوات أشبه بالصرير الصادر عن الصفائح الصدئة، وسُمى ما تخرجه هذه الكائنات "أغنيات المهرجانات"، وأنت لن تبتعد كثيرا عن الحقيقة إن قارنت ذلك بما يحدث فيما يسمى "مهرجاناتنا السينمائية". وأنا أعرف أن هناك الكثيرين من أصحاب المصلحة سوف يدافعون باستماتة عن تلك المهرجانات، ويسوقون من أجل ذلك تبريرات عديدة، فقد خدعنا رئيس لمهرجان بأنه سوف يجد للسينما المصرية فرصا لم تشهدها من قبل، وأتى بشخص أسماه "رئيس الاتحاد العالمى للمنتجين"، وبعد أن صرف على الرجل الشىء الفلانى، اختفى النصاب منذ سنوات ولم يظهر له من يومها أثر، ناهيك عن الخدعة الكبرى التي يروجونها بأن أحد مهرجاناتنا سوف يفقد صفة "العالمية" إذا لم يتم عقده فى سنة ما، لأنه عضو فيما يسمى "الاتحاد الدولى للمهرجانات"، وهذا الأخير ليس إلا شقة فى باريس، تقوم على تنظيم الأوقات بين بعض المهرجانات، وهناك عشرات المهرجانات المحترمة جدا والعالمية جدا لم تذهب إلى هذه الشقة قط (هل هناك ما هو أشهر من الأوسكار؟)، ناهيك عن أن مهرجانات مثل برلين وفينيسيا لم تنعقد طوال سنوات الحرب العالمية الثانية، ولم تسقط عنها عضويتها فى هذا الاتحاد! أفلا يجدر بنا أن نتوقف قليلا لنتأمل الحصاد، وأن نتحلى بالموضوعية بعيدا عن المصالح الذاتية، ونسأل أنفسنا الأسئلة الصحيحة لعلنا نصل إلى الإجابات الصحيحة؟ السؤال الجوهرى فى هذا الأمر كله: لماذا يجب أن يكون هناك مهرجان؟ وبالطبع يمكنك أن تجد إجابات عديدة، تختلف من بلد إلى آخر، ومن ظروف إلى أخرى. لكن الإجابة الأولى والأهم هى أن يكون لديك "سينما"، سواء على المستوى الفنى أو الصناعى، فأنت فى هذه الحالة تقيم المهرجان احتفاء بها، ورغبة فى تقديمها إلى العالم، لكنى أرجوك أن تصدقنى القول: هل عندنا سينما بالمعنى الحقيقى للكلمة؟ هل يمكن لنا أن نقارن أنفسنا فى هذا المجال، حتى على المستوى التقنى البسيط، بسينما إيران أو الأرجنتين أو البرازيل أو حتى نيجيريا؟ (نعم، فى نيجيريا حركة سينمائية ثرية ازدهرت فى الآونة الأخيرة!). وقد لا تكون لديك صناعة سينما مزدهرة بما فيه الكفاية، أو حتى قد لا تكون لك أى صناعة سينما على الإطلاق، لكنك تجعل من مهرجانك "سوقا" سينمائية عالمية، يعرض فيها المتنافسون من كل دول العالم منتجاتهم، ومجرد هذا العرض فى مهرجانك يعطيهم صكا بالتميز، على غرار ما يحدث فى مهرجان "كان" على سبيل المثال. دع كل ما سبق جانبا وافترض أن السبب وراء إقامة المهرجانات هو نوع من الترويج السياحى، حين يتردد اسم "مصر" فى الصحافة العالمية بمناسبة هذا المهرجان أو ذاك، فيتدفق إليك السياح أفواجا. لكن أرجو أن تصارحنى القول متى حدث هذا؟ لكن هناك بلدانا لا تملك سينما أصلا، ولا تطمح أن تكون سوقا سينمائية، وعندها من السياح ما يكفى، ومع ذلك فإنها تملك أموالا طائلة تنفقها على طريقة "اللى معاه قرش محيره، يجيب حمام ويطيره"، لذلك تقيم بعض دول الإمارات العربية المتحدة المختلفة مهرجانات باهظة التكاليف، ولا يمكن مقارنتها على مستوى الرفاهية بأى مهرجان آخر، وتجلب نجوما من كل بقاع الأرض (بالمناسبة لا ينتقل هؤلاء النجوم إلى أى مكان إلا بعد دفع مبالغ تفوق الخيال)، ويقام المهرجان، وتُعرض الأفلام، ويذهب كل واحد إلى سبيله كأن شيئا لم يحدث، حتى يأتى العام التالى، وتقام دورة أخرى من المهرجان، ما دام هناك جهة قادرة على دفع التكاليف، دون أن تنتظر عائدا ما. فهل تنتمى أنت يا صاحب مهرجاناتنا السينمائية إلى أمثال هؤلاء من أصحاب زكائب الأموال؟ وقد يقول قائل – ومعه ألف حق – إن المهرجانات فرصة لكى يأتى إليك صناع السينما من أماكن مختلفة، ليشهدوا قدرتك على توفير تسهيلات لهم لتصوير أفلامهم، فكثير من الأفلام يتم تصويرها – مثلا – فى المغرب أو حتى مالطة، حيث تتوافر مواقع متميزة تصلح لأنواع معينة من الأفلام، بالإضافة بالطبع إلى تسهيلات إنتاجية أخرى مثل إمكانية توفير أعداد من مختلف أنواع الكومبارس، وإمداد فريق التصوير بإمكانات الانتقالات والتغذية والراحة، فأين أنت من هذا كله؟ لكن إن شئت الحقيقة، فإن أى مهرجان جاد يضع على رأس أولوياته هدفين رئيسيين، ناتجين عن الاحتكاك المباشر بالسينما العالمية على مستوى الإبداع، الهدف الأول هو الارتقاء بأفكار السينمائيين، حين يشاهدون – على سبيل المثال – فيلما من أرقى الإنجازات الفنية، لكنه لم يتكلف إلا ربع ما يتكلفه فيلم مصرى متواضع فى هذه الأيام، وهذا يرتبط بالطبع بالتواصل مع مؤسسات السينما المختلفة فى العالم، لكى يتعلم "موظفونا" فى مؤسساتنا السينمائية كيف تتم مواجهة مشكلة ما، لكن عقودا شهدت عشرات المهرجانات لم تحقق أى ارتقاء بالأفكار الإبداعية أو التنظيمية. (كانت إبداعات جيل الثمانينيات ناتجة عن وجود ثقافة سينمائية، تمثلت فى نوادى السينما وجمعيات الفيلم ومراكز ثقافية أجنبية وقصور سينما ومجلات سينمائية، لكنها جميعا للأسف لم تعمر طويلا). الهدف الرئيسى الثانى هو رفع مستوى التذوق لدى الجمهور، لكن أرجو ألا نخجل من الاعتراف بأن هذه المهرجانات تدور فى غرف شبه مغلقة، ويمكن لروادها أن يشاهدوها دون كل ذلك الصخب المهرجانى، بل لعل الأجدى بحق أن نرى ارتفاع الذوق السينمائى منعكسا فى الحركة النقدية، التى باتت تعيش على أفكار ومناهج أربعين عاما مضت (فى الحقيقة أن ما تبقى منها ليس إلا نوع من حصاد الهشيم، بسبب تدهور الثقافة العامة أيضا). ناهيك عن أن الإمكانات الإلكترونية المتاحة فى عصرنا تجعل من السهل تماما الحصول على "كل" الأفلام العالمية بالمعنى الحرفى للكلمة، والمهم هو أن تُجرى حلقات نقاشية جادة (أكرر: جادة) تُشعرنا بأننا قد تخلفنا كثيرا عن الركب العالمى، وتجعلنا نعترف بذلك، ونحاول إصلاحه. بالله عليك قل لى ماذا تحقق من كل ذلك كنتيجة لمهرجاناتنا السينمائية العديدة، التى ربما تجاوزت فى عددها المهرجانات فى أى دولة من دول العالم؟ هل تريد الصراحة؟ معظم هذه المهرجانات ليس إلا "سبوبة"، ونحن لا نريد أن نقطع عيش أحد، لكننا نريد ممن يتكسبون منها، فى كل مراحل إعدادها وتنفيذها، أن يطرحوا دائما على أنفسهم السؤال حول إذا ما كنت تحقق أهدافها. هل من الضرورى أن تكون هناك حفلات افتتاح من نوعية لا يعرف لها العالم مثيلا، فمنذ أن جاء فاروق حسنى بالراقص اللبنانى وليد عونى ليصنع له مثل هذه الحفلات، أصبحت تقليدا غير مطروح للنقاش مثل فوازير رمضان وحلاوة مولد النبى، وإذا كان ذلك مفهوما فى عصر "الصهللة الثقافية" (بتعبير فاروق حسنى نفسه)، فهل يظل متبعا ونحن نحاول أن نبنى وطنا على أنقاض واحدة من أسوأ مراحل تاريخنا؟ وهل ما تسمى "تكريمات" للفنانين تستحق بالفعل هذا الاسم؟ وعلى أى أساس يتم اختيار هذا الفنان أو تلك الفنانة، إلا لأنهما "جاء عليهما الدور"؟ هل نحن نكرمهم حقا أم نجاملهم أحيانا حتى لو كان ذلك على حساب السينما؟ وفى كل الأحوال تقام السهرات، وتُلتقط آلاف الصور للنجوم وأشباه النجوم (هناك شخصية تظهر فى كل المهرجانات، دون أن يكون لها عمل فنى واحد!!)، ويذهب البعض إلى هذا المهرجان فى رحلة الصيف، ويذهب آخرون إلى مهرجان آخر فى رحلة الشتاء، وتظل السينما المصرية على حالها، كأنها امرأة تعانى آلام الاحتضار، بينما يقيمون لها الأفراح وأعياد الميلاد! فى كلمة قصيرة ورائعة تحدث نور الشريف عند تكريمه فى مهرجان الإسكندرية الأخير، ليس عن نفسه كما يفعل النجوم فى العادة، وإنما عن السينما، صناعة وإبداعا، وعن دور العرض السينمائى التى كادت تختفى، وعن وظيفة السينما فى خلق لا وعى جماعى متقدم ومستنير.. وكانت تلك الكلمات تحذيرا طالت الإشارة إليه، بأن الوعى الجماعى المصرى فى خطر، لأن كل ما تبقى من فن السينما هو تلك المهرجانات الصاخبة بالأضواء، بينما قاعات السينما قد اختفت أو هى غارقة فى الظلام.