محمد هلال تراب أحمر، ذلك العنوان الفلسفى الساحر.. اعترف بداية أنه بقدر ما خدعنى وذهب بى إلى مالم يخطر بقلبي .. إلا أنه أدهشنى جدا . بما في الرواية من المتعة والاكتشاف لعوالم جديدة تضاف للمرة الأولى للرواية المصرية وهي الاتجاه جنوبا. وكنت كريفي قديم قد رتبت نفسي للاستمتاع بماضي الزمان من حوارات وجولات في الأزقة والحواري للقرية المصرية، وأماكن ما بين الأثافي بالبلدي " الكانون " والفرن الذي يوقد بقش الأرز وحطب القطن والذرة ويسميه أهل قريتي "الحمية " ويتخلف عن تلك النيران تراب الحريق أو بالبلدي أيضا " تراب أحمر " رغم أن لونه رمادي يقترب من اللون الأسود ولكن هكذا كان يسميه الناس ومن المعتاد أن تطلب المرأة الريفية من ولدها أو ابنتها " شوية تراب أحمر من الفرن " كتمييز له عن تراب الشارع وذلك لاستخدامه في تنظيف أواني الطعام قبل أن تظهر المنظفات المعروفة الآن كبديل عصري لتلك العملية ولتراب الفرن عموما استخدامات عديدة يضيق المجال عن ذكرها.. بل تحتاج لعمل أدبي كبير بحجم تراب أحمر. للزميلة الراقية الروائية نفيسة عبد الفتاح والذي اكتشفنا أنها ابنة المدينة ولا تعرف القرية إلا في زياراتها القليلة لجدتها التي أخرجتنا من الحدود المصرية قاطبة وذهبت بنا نحو الجنوب وكأننا في رحلة مصرية قديمة لبلاد بونت التي قرأنا عنها في تاريخنا الفرعوني ولكنها من طراز جديد. إلى دولة زامبيا أخذتنا بطلة تراب أحمر التي لم تعلن المؤلفة عن أسمها، وذلك ما يوحي بحالة التوحد بينهما وكأنهما سيدة واحدة , وبدلا من ان تصارحنا بالحقيقة التي ستجرنا إليها ونذوب حزنا معها وعليها استدرجتنا بكلمات رومانسية غاية في الرقة " مازلنا غارقين في سحر الخضرة والتراب الاحمر والعصافير الملونة .. بيت من دور واحد تتناغم في حديقتة ابداع الوان الفراشات والأزهار.........." وما أن همسنا في أنفسنا حسدا لمن يعيش هذا الجو المخملي الساحر الذي يشبه جنة الفردوس وقلنا : يالحظنا العاثر ! نفيق على الحقيقة المرة وهي ان خلف هذا الطلاء او المكياج الفاقع الجمال وجه عجوز شمطاء يجرى الشر في شرايينها " يضحك مدير الفرع بشقاوة : يا جماعة من الاشياء العادية جدا ان تجد حرباء الى جوارك او ثعبانا في بنطالك .. انت في زامبيا في قلب افريقيا " وبرغم اختلاف الطقس والطبيعة الا ان قسوة التراب الاحمر من الفرن البلدي الناتج من الحريق هي هي قسوة تراب زامبيا الاحمر الذي حرقه الجفاف وبشاعة حرارة الشمس او قل نيرانها والفقر الذي يأكل القيم هنا .. هو هو الفقر الذي يأكل القيم هناك .. حيث الرشوة والفساد حتى لو اصبح الفاسد في بحبوحة من العيش مثل السيد مدير فرع الشركة الذي ذهب إليه زوج البطلة كمنتدب من الشركة الأم في القاهرة وتلك حالة نفسية تلازم الفاسد ربما .. وهي عدم الشبع وانعدام القناعة فالرجل يعيش في منزل فخم تحرسه كلاب يخشاها الناس ويقوم على خدمته الكثير من أهل البلدة ويخصص لتنقلاته سيارة جيدة ورغم ذلك لا يطيق وجود "المحاسب " ابن بلده رغم غربتهما ويحتال بكل الحيل غير الشريفة مع المسئولين في الدولة هناك على ابعاده وتلك حالة سيئة يمتاز بها للأسف الشديد المصريون في الغربة فترى الكراهية تأكل قلوبهم وقد نجحت الرواية في تصوير ذلك جيدا كما وضعت يدها على سلبيات عديدة تشوه سمعة مصر في الخارج من رجل الأزهر الإمام الذي لا يجيد لغة التخاطب مع أهل البلد الذي يذهب لنشر الدعوة الإسلامية فيه .. إلى السفارة والقنصلية ومن يعملون بهما وكأنهم لا علاقة لهم بالمصريين المغتربين في تلك البلاد رغم أنهم أصل عملهم تأخذنا المؤلفة ببراعة رائعة تخلط فيها رومانستها وبكارة اكتشافاتها لعوالم لم تجربها من قبل.. وكما يرى الصوفي أن معشوقه هو الملاذ والملجأ والاطمئنان الوحيد في دهاليز غربة النفس عن العالم .. كانت بطلة الرواية مع زوجها رفيق دربها ورحلتها فلا غرابة إذن من ذكر كلمة زوجي.. زوجي حبيبي.. حبيبي إلا أن تكرار البطلة لنعت حبيبي وزوجي حبيبي :خلطت مابين مشاعر الكاتبة وبطلة الرواية فتوحدا في شخص واحد وهذا يميل بالقاريء إلي أنه امام ادب رحلات نمطي الحكي ،أيضا التزام المؤلفة بالأحداث التي مرت بها حرفيا واغلاق دائرة الخيال رغم توفر أبوابة وأسبابه ربما لخوفها ان يقرأها من عاش تلك التجربة او شاهدها ويقول لها: هذا لم يحدث !تلك النقطة أضاعت الكثير من الروعة الإبداعية ومنها علي سبيل المثال استعراض فساد مدير الفرع مع شيخ المسجد في صفقات مشبوهه،إلا انها مرت عليها سريعا مرار الكرام . وإن كانت الرواية قد نجحت في نقل المأساة علي لسان السائق المصري الذي يكره المصريين "كل الجاليات هنا تتوحد وتحتضن القادم من أبنائها حتي يتمكن من النجاح أما المصريين هنا فيكرهون الخير لبعضهم" مرت أخري يعود الإخفاق الروائي وخنق الرؤية الشمولية له في مواجهة زوجة الطبيب تلك المرأة سليطة اللسان التي تكيل التهم بلا ضمير أو حياء وتكتفي البطلة بالحل الإسلامي البسيط "عقيدها الدينية" وتعتبره انتصارا يستوجب شكر الله أن وفقها إليه ، وهو كذلك ولكن خارج اطار الرواية ،وكان يمكن للكاتبة ان تطلق عنان الخيال للرواي أو الراوية لكشف أنواع الفساد التي تجمع هذه السيدة الشريرة وزوجها الطبيب مع صديقهما الفاسد مدير الفرع،وقد تجسد نجاح الخيال لدي الروائية رغم جواز واقعية ذلك في متابعة الكلب الضال لهما، وارتباطه بهما وتركه دنياه التي كانت قبل رؤيتهما وزوجها وبقائه بقية عمره إلي جوار بيتها،وخيرا فعلت الكاتبة بنهاية الرواية التي قال فيها المدير الفاسد تعقيبا علي رحيله المفاجيء من فرع الشركة كعقاب له " لاتفرحوا كثيرا بذهابي فالمديرالقادم صديقي " ومعني ذلك إذا رحل الفاسد سيحل خلفه فاسد جديد وذلك يتوافق مع الواقع في معظم حالته. عموما "تراب أحمر"رواية رائعة شيقة تاخذنا إلي عوالم المبدعين الكبارأمثال محمد عبد الحليم عبد الله ، في تلك الرومانسية المغلفة بالقهروالحظ العاسر،والإنكسار ومحاولة النهوض ومن الطريف في تلك الطبعة من الرواية ان يتوافق رقم الصفحة 67 وهو مصدر شؤم المصريين يذكرهم بالنكسة " دعاني زوجي قبل الخروج إلي إلقاء الهموم جانبا ولو لليلة واحدة.........................تلك المحنة جعلتني أكتشف أكثر لما أنا محظوظة لأنني زوجة هذا الرجل" ما أشبه ذلك بحال المصريين مع جمال عبد الناصر رغم انه سببها كما كان زوج البطلة سببا في ذهابها إلي تلك البلاد القاسية ولكنها حالت توحد المحب في محبوبه كما أسلفنا. يبقي أن نقول أن نفيسة عبد الفتاح تؤكد في روايتها الأولي ابنة هذا الفن بلا منازع تكتب الكلمات بحرص وحب وعشق متبادل مع الحروف يجعلنا نفرح لميلاد مبدعة حقيقية ننتظر منها روائع كثيرة.