جمال طه أكثر من أسبوع مضى منذ تحرك الجيش الليبى فى 16 مايو الجارى ضد الإخوان والإرهاب وزراعة الفوضى فى ليبيا، لم ينقسم الجيش كما راهن أعداؤه، وكما تحسب قادته، حتى انهم اطلقوا على تحركهم "الجيش الوطنى" تمييزاً له عن جناح افترضوا انحيازه للعدو، لكن المواجهات والتداعيات تظل حتى الآن محدودة لاتتناسب وحجم التحفز والإستقطاب وتعدد وتنوع ا...لأطراف، لذلك لازال الموقف بعيداً عن ظهور اى مؤشرات للحسم، فاكتفت معظم القوى الإقليمية والدولية بالترقب انتظاراً لإنتهاء حالة الإلتباس الراهنة.. لكن الترقب هنا لايناسب الحالة المصرية، فالموقف الراهن فى ليبيا ليس شأن داخلى صرف، لأن الإخوان المسلمون الذين هربوا من مصر بعد 30 يونية وعدد من جماعات الإرهاب التى تستهدف مصر تدخل كأطراف رئيسية فى معادلة القوى على الساحة الليبية، خاصة وأن هناك معسكرات تدار لإعداد وتدريب عناصرها المسلحة قبل إعادة دفعها للعمل داخل مصر.. عبور مرحلة الإلتباس وتجاوز المخاوف والتوصل الى تقدير موقف شامل يعتبر أمر حتمى قبل إتخاذ موقف سياسى فاعل، وتجاوز مرحلة التنديد الساذج ب"محاولات الزج بمصر فى التطورات الجارية فى ليبياً". أولاً: أن تحرك حفتر فى بنغازى أثار مخاوف من ان يكون تحرك طائفى، إلا ان انضمام لواء "القعقاع" وكتيبة "الصواعق" المنتمين الى طرابلس (17 الف مقاتل)، قد خفف من تلك المخاوف، الى ان تلاشت تماماً بانضمام القوات الخاصة وكل القواعد البرية والبحرية والجوية بطبرق، وقوات حرس الحدود والشرطة العسكرية والدفاع الجوى والمخابرات، والكتيبة الثانية بالجنوب الليبي، وهى تشكل فى مجموعها اكثر من 90% من قوات الجيش النظامى، بخلاف قوات الشرطة. ثانياً: كما أثار انفجار الصراع المخاوف من أن يكون مقدمة لعملية تقسيم على الأرض، على النحو الذى تتناوله العديد من التحليلات والخرائط والتسريبات منذ عدة شهور، الا ان الحقيقة ان هناك مراجعات جدية لإستراتيجية الفوضى الخلاقة التى انتهجتها الولاياتالمتحدة وكان التقسيم أحد أدواتها، ونشير هنا الى تأكيد المؤتمر الدولى لدعم ليبيا بروما 6مارس 2014 على "وحدة وسيادة ليبيا" تمشياً مع ماتقرر ايضاً بمؤتمر باريس12 فبراير الماضى.. الغرب اذن يريد ليبيا موحدة. ثالثاً: ان محاولة الجيش القضاء على الإرهاب ووضع حد للفوضى فى ليبيا قد يطرح المخاوف لدى الغرب من فكرة الإنقلاب العسكرى، الا ان الحقيقة ان حفتر قد اتخذ عدد من الإجراءات المطمئنة بعد تجميد المجلس الوطنى "البرلمان المؤقت" الذى يسيطر عليه الإخوان والجماعات المتشددة (تكليف لجنة الستين المنتخبة فى فبراير الماضى بمهمة التشريع إضافة لصياغة الدستور -تكليف الحكومة المؤقتة برئاسة عبدالله الثنى بالاستمرار كحكومة طوارئ -تشكيل هيئه رئاسيه برآسة الرئيس الأعلى للقضاء فى إطار خطة انتقالية تنتهى بانتخابات برلمانية ورئاسية).. خطة شبيهة بخارطة المستقبل فى مصر، التى اضطرت امريكا لتقبلها تحت ضغط التطورات، بما يشكل عامل محفز لتقبلها للخطة الليبية، اذا كانت طريقاً للإستقرار. رابعاً: إن عودة الجيش للسلطة قد يطرح المخاوف لدى الغرب من ان يكون مدخلاً لعودة روسيا لتواجدها التقليدى بليبيا، أسوة بما حدث فى مصر بعد30 يونية، لكن أمريكا قد وعت الدرس المصرى وبدأت عمليات مراجعة وتراجع تقوم على التسليم بالدور الوطنى للجيش، فى مواجهة الرفض الشعبى للإخوان، ناهيك عن ان حفتر نفسه تربطه علاقات خاصة بالولاياتالمتحدة، إذ يحمل حق اللجوء السياسى منذ1990، وأقام بفرجينيا 24عاما، وحصل على دعم امريكى لأنشطة "الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا"، وجناحها العسكرى "الجيش الوطني الليبي" اللذين أسّسهما اعتباراً من 1988. خامساً: ان تحرك حفتر قد يمثل حلاً لواحدة من أهم الإشكاليات الدولية، وهى البحث عن آليات لوضع حد للفوضى وانعدام الأمن منذ سقوط القذافى.. فى ديسمبر2013 دعا وزير الخارجية الفرنسى نظيره الجزائرى خلال قمة السلام والأمن فى افريقيا التى عقدت بباريس للإتفاق على وضع آلية مشتركة للتدخل ضد الإرهاب فى ليبيا، واحتواء تأثيراته على دول الجوار، الا ان الجزائر رفضت، مجموعة الثمانية كلفت ايطاليا بالتنسيق مع الجيش والشرطة الليبيين لإستعادة النظام، وخلال زيارة بيرنز الأخيرة لليبيا، أمهلت الولاياتالمتحدة الحكومة والقوى السياسية شهرين لإستعادة الإستقرار السياسى، وحذرت من تدخل امريكى اوروبى بنهاية المهلة لوضع حد للفوضى وانعدام الأمن، ومنذ منتصف ابريل 2014 والقوات الأمريكية تستعد لشن عملية عسكرية محدودة "أزهار الربيع" ضد القاعدة والتنظيمات المتشددة ولوضع حد لموجة الإعتداءات على البعثات الدبلوماسية فى ليبيا، ومهدت لذلك بإعتبار "أنصار الشريعة" تنظيم ارهابى بعد إعلانها أول إمارة مستقلة ب"درنة" شرق ليبيا، وموافقة مجلس النواب الأمريكي 9 مايو الجارى على تشكيل لجنة مهمتها التحقيق في الهجوم على السفارة الأمريكية ببنغازي سبتمبر2012، واغتيال السفير وثلاثة من ضباط الأمن، فضلاً عن بحث فرص نجاح تلك العملية. سادساً: إن هناك مصلحة أمريكية وأوروبية لضبط الأوضاع الأمنية، ومحاربة الجماعات الأصولية، ومنع الهجرة غير الشرعية التي تنطلق نحو أوروبا من الشواطيء الليبية (تزيد عن ألفي كيلومتر)، وإستعادة معدلات تصدير البترول لأوروبا (انخفض الانتاج من 1,6 مليون برميل يومياً إلى أقل من ربع مليون)، فضلاً عن وقف التهديدات التى تتعرض لها الدول المجاورة (مالى –تونس–الجزائر...) نتيجة عدم قدرة السلطات الليبية على ضبط الحدود، ومن المؤكد ان تحقيق تلك الأهداف دون تورط عسكرى امريكى اوروبى مباشر سيحظى بالمباركة حتى وان لم يعلن عنها صراحة. سابعاً: ان موقف تونس من تحرك الجيش الليبى هو اكثر المواقف حرجاً والتباساً فى المنطقة، فاستهداف الإخوان وإسقاطهم فى ليبيا، بعد سقوطهم فى مصر، يضع استمرار التجربة التونسية، رغم بعض الإختلافات، موضع شك، الا ان انتشار الجماعات المتطرفة فى ليبيا، بما لها من امتدادات داخل تونس، قد شجع على شن أعمال ارهابية ضد الجيش والشرطة التونسية (جبل الشعانين...)، ممايفسر ماتردد عن موافقة تونس –خلال زيارة وزير خارجيتها الأخيرة لواشنطن- على تقديم تسهيلات للطيران الأمريكى والفرنسى بقاعدة "رمادة" الجوية لتنفيذ عمليات ضد الجماعات المتطرفة بليبيا، قبل التحرك الأخير للجيش. ثامناً: أما الموقف المصرى فإن انحيازه لحركة الجيش الليبى -بعد ان دعمها تحرك شعبى واسع فى بنغازى وطرابلس 23مايو الجارى- يعتبر موقف مبدئى، بحكم العداء المشترك للإخوان والسعى للقضاء على الجماعات الإرهابية فى كلا الدولتين والتى ترتبط بعلاقات تنظيمية وتنسيق مشترك، مع أهمية مراعاة عاملين: الأول.. تجاوز التسريبات التى تستهدف التشكيك فى موقف حفتر من مصر، لأنها جزء من معركة اللجان الإلكترونية للإخوان التى تسعى لإستمرار الأراضى الليبية مفتوحة لممارساتهم ضد مصر، بدفع مصر لإلتزام الحياد أملاً فى إجهاض حركة الجيش.. حفتر شارك فى حرب1973، ويؤمن بالعسكرية المصرية، وبدور مصر الإقليمى، الثانى.. ان نضع فى الإعتبار طبيعة العداء التاريخى بين بعض اللاجئين الليبين المقيمين بمصر والمنتمين لنظام القذافى واللواء حفتر، مما يفرض التنبيه عليهم بمراعاة الإلتزام بالقيود على ممارسة النشاط السياسى او التعبير عنه إعلامياً، تجنباً لإحراج مصر مع النظام الليبى الجديد، خاصة وانه قد اعلن نيته فى تسليم الإخوان الهاربين لليبيا، وينبغى تجنب ايجاد مبرر له لطلب تسليمها فى المقابل. أثار تحرك الجيش الليبى حالة من الإستنفار والإستقطاب لدى الإخوان والثوار والجماعات المتطرفة لخوض مواجهة مصيرية قد تحدد مستقبلهم بليبيا، وربما بالمنطقة.. نتيجة المواجهة قد يصعب التنبوء بها، ولكن مانستطيع ان نجزم به ان موقف الجيش سيزداد توحداً فى تلك المواجهة ولن يتعرض للإنشقاقات، كما سيحظى بالمزيد من التأييد والدعم الشعبى والقبائلى، اما التنظيمات المتطرفة فرغم ماتمتلكه من عناصر وأسلحة الا ان صعوبة التنسيق العسكرى الميدانى فيما بينها، قد تضعف من موقفها فى مواجهة وحدات الجيش، وتدفعها للجوء الى جبال المنطقة الشرقية، لخوض حرب عصابات ضد الجيش، والتسلل لشن عمليات داخل المدن، فضلاً عن محاولة بعضها التسلل لداخل مصر. تأمين الجالية المصرية فى ليبيا التزام واجب، وعاجل، سواء بالتنسيق مع الجيش الليبى، أو ترحيل من هم فى مناطق المواجهة.. بدء تحرك اقليمى ودولى واسع للتنسيق بشأن تطورات المواجهة فى ليبيا على النحو الذى قد يسمح بتعبئة تدخل دولى لدعم دور القوى الوطنية الليبية فى مواجهة الجماعات الإرهابية، وفى هذا الإطار فإن التنسيق مع الولاياتالمتحدة أمر حتمى، وقد تكون تلك فرصة لعودة التنسيق الإستراتيجى بين الدولتين.. التورط العسكرى المباشر لقواتنا البرية مرفوض أياً كانت المبررات، لكن فتح قنوات اتصال مع الجيش وأجهزة الأمن الليبية، وتقديم كل صور الدعم لها (معلومات ودعم مخابراتى –تصوير -رصد – إسناد -إمداد...) التزام ينبغى عدم التأخر فيه.. انطلاقاً من حقيقة ينبغى إدراكها مبكراً: أن خسارة الجيش الليبى ل"معركة الكرامة" يفتح جهنم على طول حدودنا الغربية، ويحد من قدرتنا على استعادة الأمن والإستقرار بالبلاد، اما حسم المعركة لصالحه فهو يعيد العمق الإستراتيجى لأمننا القومى عبر حدودنا الغربية، متكاملاً مع العمق الخليجى، ممايساهم فى حسم سريع لمواجهتنا الراهنة مع فلول الإخوان، ويحقق الإستقرار فى مصر.