السيد حسين الروائى طارق الطيب، واحد من القلائل الذين يكتبون وهم يحملون هموم وأوجاع أوطانهم وأهلها على عاتقه، لم تغيره سنوات الغربة والعيش فى أوروبا عن واجبه تجاه وطنه العربى فهو دائم التواصل والوجود من وقت لآخر، وهو أيضا غير متفائل بكتابات ما بعد الثورات العربية لأنه يعتبر بعضها يسير مع الموجة أو من أجل التكسب من ورائها. كيف تقيم الأوضاع فى السودان ؟ الوضع فى السودان مربك ومرتبك منذ سنوات. السودان منعزل برغم التشدق بغير ذلك، ومتشرذم بالقطيعة الجغرافية والقطيعة القبلية، والسلطة التى تحكم لسنوات طويلة وأساسها عسكرى يبرز التدين لا الدين، سلطة تضيع منها الحكمة والرشد مقابل التسلط والجبروت العسكرى والبوليسي. سلطة تعتقد أن حل جميع المشكلات يكمن فى المدفع والدبابة أو السجن ونفى الرأى الآخر! هل السودان مقبل على التأثر بالثورات العربية ؟ بالتأكيد السودان مقبل على ثورة لابد منها، حتى لو اختلف شكلها عن ثورات الربيع العربي؛ فالشعب مسحوق ممزق والسلطة إذا كانت على دراية فهذه مصيبة، وإذا لم تدر فالمصيبة أعظم. الإصلاحات المطلوبة تحتاج لتغييرات ليس للحكومة الحالية مقدرة على تحقيقها. حين تعتبر السلطة القائمة أن الرأى الآخر مجرد معارضة لا تعمل إلا على إسقاطها، وليس استكمالا نحو بناء دولة ديمقراطية؛ فهى بهذا تسير لزوال مؤكد حتى بعد الانجرار إلى دائرة العنف. ما أقوله هنا على سبيل المثال يعتبره البعض منهم عمالة أو خيانة أو تخريبا وليس رأيا يستحق الحوار، وهذه سمة لنهاية مجد جنرالات الدنيا وجنرالات الدين فى كل العالم! برغم أنك تجمع ما بين الشعر وكتابة القصة والرواية فإنك سرعان ما تربعت على قلوب الكثير من محبيك والقراء، إلام يرجع ذلك فى تقديرك؟ الجمع بين هذه الكتابات لم يأت بقرار منى بممارسة التنوع فى الكتابة الأدبية؛ بل جاء عفويا، ولا أعتقد أن هذا الجمع فى حد ذاته هو السبب فى وجود محبة من القراء، على العكس، فقد يؤدى هذا التنوع لدى قراء كثيرين إلى وضع مقارنات ليست فى صالح الكاتب، كما أن البعض يفضل قراءة القصة ويعتبر الرواية فى حاجة لنفس قراءة طويل، هناك من يستحسن شحنة الشعر ويعزف عن قراءة أو متابعة القصة، وهذا وارد وطبيعى فى حالة القارئ العادي، لكن ما أستغربه حقا أن يفضل بعض الأدباء المتمرسين فقط قراءة الرواية أو فقط الشعر أو فقط القصة وهكذا. هل لك طقوس معينة فى الكتابة ؟ وكيف تمزج بين الكتابة الروائية والكتابة القصصية؟ ليس لدى طقوس معينة فى الكتابة. أفضل الكتابة فيما بعد العاشرة مساء حتى الواحدة أو الثانية صباحا. أكتب معظم نصوصى فى فيينا، حيث تتيح لى المدينة الهدوء الذى أحتاج إليه. أفضّل- بعد شقتى أو حديقة البيت الكبير- الكتابة فى مقاهى فيينا، وأستطيع فى هذه المدينة أن أكتب فى المترو والباص والترام والقطار والحديقة بلا إزعاج! الأوقات الصباحية أو النهارية أفضّلها لمراجعة النص المكتوب ليلا؛ سواء بإضافة أم حذف أم تغيير أم مراجعة معلومات أم أبحاث تتعلق بالنص. لا أمزج بين الكتابة الروائية والكتابة القصصية، بل أكتب النوعين. أفهم أن سؤالك يقصد ممارسة النوعين؛ ففى ظنى أن الكاتب يغزل نسيجا واحدا يتنوع فى القلب والقالب، الكاتب يثبّت القلب، أما الفكرة فتصوغ قالبها المناسب لتلبس شكل رواية أو قصة أو مسرحية أو قصيدة أو حتى مقال. الرواية تحتاج لطول بال وترتيب ذهنى طويل الأمد وتركيب بتكثيف غير مضغوط، بينما القصة المتميزة فى رأيى أصعب لأنها من شكل أكبر بحيث يكون معبرا عن كل ما لم يقال. هذا القص - الاختصار يحتمل التكثيف الفنى والغموض اللذيذ لكن ليس لدرجة الإبهام واللغز، بل كتابة تخلق رياضة ذهنية للوعي. أما الشعر فهو يخاطب الوعى والوجدان فى آن. ما الجديد الذى تقدمة فى رواية محطات من السيرة الذاتية؟ وهل هى سرد لسيرتك الشخصية؟ محطات من السيرة الذاتية هى جزء من سيرة حقيقية، قد يغلفها بعض المشاعر الأدبية والفنية، لكنها تمثل سيرة مقطع أساسى من حياتى فى مصر لربع قرن، لم أتناول فيها الربع قرن الثانى فى فيينا إلا قليلا، فهذا جدير بكتاب سيرة خاص يصدر فى سنوات مقبلة. الجديد الذى تقدمه (محطات من السيرة الذاتية) هو التطرق إلى مراحل الطفولة بتوسع كبير أراه مهما فى السيرة، وثانيا التطرق للمكان الذى شكل ذاكرتى فى محاولة منى لحفظه من الضياع بعد أن أصابه تغيرات بشكل متعاظم وفوضوي. بمن تأثرت فى كتاباتك الأدبية عربيا وعالميا؟ تأثرت بكثيرين ولن أسرد هنا أسماء فالقائمة طويلة، ولن تعنى شيئا خارقا من وجهة نظري، وليس معنى تأثرى بالأدب العربى أو الألمانى خاصة أو الأوروبى أو الترجمات الروسية أنه سيكون لى خط معين ومنهاج فى الكتابة، فكل كاتب يهضم الأعمال الأدبية بطريقته، وكل كاتب له بصمته المميزة حتى وهو يقلد! الأكثر أثرا فى كتاباتى هما الزمان والمكان؛ فترتاى الزمنيتان: الحياة الاجتماعية التى عشتها فى الستينيات، الأمكنة التى عشت فيها سواء فى مصر بين القاهرة الجديدة والقاهرة القديمة، وبين سيناء وعين شمس فى طفولتى ومراهقتى وشبابى، أم فيما بعد بين المدينة الأوروبية فيينا تحديدا والريف النمساوى الذى أعيش فيهما منذ أكثر من ربع قرن، كذلك الأمكنة الكثيرة التى زرتها فى أوروبا وحول العالم. الأمكنة تعنى لى حيوات إضافية أنسخ منها كتاباتي. الزمان هو القلب والمكان هو القالب! كيف يغير الأدباء العرب خصوصا المهاجرين الصورة لدى الغرب عن الشرق وعن الأدب وكذلك عن الإسلام؟ أنا لا أحبذ أبدا موضوع تحسين الصورة الذى برز قبل أعوام وأصبح على الكاتب العربى أن يخصص وقته وجهده فى كل مكان مثل "أبوكاتو" أدب تحسين وتجميل، ويسير بشنطة "مصلّحاتي" حول العالم. هذه فى الحقيقة ليست مهمة الأدب ولا الأديب. مهمة الأديب أن يكتب أدبا جيدا، والأدب الجيد يمكنه أن يرد أفضل رد بشكل غير مباشر وطويل الأمد على الكثير من الدعاوى المغلوطة والآراء المسبقة، ويمكنه أن ينقل أفكارا أهم ألف مرة من تخصيصه للدفاع عن أفكار أيديولوجية مهما كان نوعها. كلما أمعنا فى التأكيد على هوية دينية للكاتب فنحن بهذا ندخل فى مباراة ليست لها علاقة بالأدب الإنسانى الشامل. أنا أكره هذا التصنيف ولا أحب تصنيف كاتب على أنه مسلم أو قبطى أو مسيحى كاثوليكى أو يهودى أو بوذى أو ملحد. سندخل بهذا فى نفق لا يصب فى مصلحة الدين أو الفن! إذا عدنا معك إلى البداية الرحلة الأدبية. كيف كانت فترة التكوين وتأثيرها فى تكوين وعى الكاتب لديكم؟ هذا سؤال كبير يحتاج فى إجابته لمقطع كبير من السيرة الموجود الكثير منها فى (محطات من السيرة الذاتية) والمنشور أخيرا فى القاهرة لدى دار العين. سأختصر: من التحاقى بكُتّاب الشيخ على إلى المدرسة الابتدائية؛ إلى اهتمام جارنا الأستاذ عبد الغفار إبراهيم عبد الله بالأزهر، والعميد بكلية الحقوق بى فيما بعد وبتدريسى للغة العربية؛ إلى جانب مكتبة أبى التى حوت عشرات من الكتب الأدبية من روايات وقصص وكتب دينية وعسكرية التى جمعها أبى وجلّدها فى شكل جميل، مما حببنى فى القراءة، إلى جانب الوقوع فى الحب فى سن المراهقة وممارسة الشعر ثم التأثر لاحقا بالفلسفة. وكما ذكرت سابقا المكان له أثر عميق فى مسيرتى الأدبية. لكن يمكن باختصار اعتبار هذه السلالم مجرد الدرجات الأولى التى تمثل تكوينا مباشرا أو غير مباشر فى دفعى بمحبة فى طريق الأدب. البعض يقول إننا فى زمن الرواية لأنها تغطى على الألوان الأدبية الأخرى.. فما رأيك؟ زمن الرواية تعريف صحيح من وجهة نظر النشر والقراءة، فالرواية لها الآن الأولوية، ليس لأنها تغطى على الألوان الأدبية الأخرى بل لأن القارئ يرتبط بالحكاية أكثر من ارتباطه بالفكرة، إضافة إلى أن القارئ فى عصرنا الحديث، لا يريد أن يرهق ذهنه فى تأمل المكتوب وفك رموزه وغموضه، خصوصا إن كان شعرا أو قصة قصيرة مركزة. أغلب الناس الآن يفضلون المشاهدة عن القراءة. انعدمت متعة رياضة الذهن فى تلقى الأدب وتغيرت إلى كسل التلقي، فالفيلم مثلا أو المسلسل التليفزيونى أكثر سهولة من القراءة وأكثر دعة، ومن ناحية أخرى فالشخص العربى إحصائيا يعد فى أدنى المراتب عالميا فيما يتعلق باقتناء الكتاب، بل الأسوأ فيما يتعلق بالقراءة وهو يشترى فى الغالب ما ينصحه به الآخرون، ويشترى سماعيا أكثر مما يبحث بنفسه عن الكتاب. الشعر فى أزمة لما سبق وقلته من كلام لكنه بلا شك ما زال يمثل الوجدان الذى لا يمكن أن يذوب أو يختفى. كيف وأين يتابع "طارق الطيب" ردود أفعال الناس حول ما يكتب؟ فى أوروبا الوضع أفضل بمراحل من العالم العربى فيما يتعلق بالكاتب والكتاب؛ فالحضور للقراءات مقارنة بالعالم العربى مكثف وهو أكثر حيوية فى التفاعل مع الكاتب بالسؤال والحوار وبالقراءة قبل وبعد، وباقتناء الكتاب بالشراء وليس مجانا. تبدو ردود أفعال النشر فى العالم العربى كأنها كثيرة ومتنوعة ، لكنها لا تعدو أن تكون خبرا واحدا منسوخا لعدة صفحات أدبية بلا إضافة محفزة لاقتناء الكتاب أو الاطلاع عليه، ومع غياب النقد تبدو هذه الطريقة غير مؤثرة على سوق الكتب أو حضور الندوات. الوسائط الأخرى تخلق أيضا قارئا محتملا يتواصل مع الكاتب بشكل ما. كل وعاء إعلامى لتوصيل معلومة عن الكاتب أو الكتاب هو بمثابة نقطة إيجابية فى جميع الأحوال، لكن الذى يلفت النظر دائما هو الإضافة المميزة وهذا نادر. والشبكة الإلكترونية (النت) هى إحدى أبرز وسائل التواصل والمتابعة مع الناس.