أحمد أمين عرفات لا يحمل لشهر أكتوبر فقط ذكريات النصر الذى شارك فى صنعه، ولكنه يحمل أيضا ذكريات الصدمة والدموع مع بداية عمله بالقوات المسلحة، عندما فقد زميلين له باستشهادهما مع الكثيرين من الجنود بعملية غدر إسرائيلية تمت على تبة جبل الصابحة فى أكتوبر 1955، لذلك عاش من أجل أن يثأر لهما ولكل من اغتالته يد العدو، حتى تحقق ما كان يحلم به فى اكتوبر 1973، إنه اللواء محمود جلال مروان رئيس فرع الإدارة العسكرية فى هيئة التنظيم الأسبق بالقوات المسلحة، وقائد كتيبة العبور فى حرب أكتوبر والتى قامت أيضا بأسر عساف ياجورى، ومعه كان هذا الحوار: كانت بداية عملك بالقوات المسلحة كضابط فى شهر اكتوبر، لذلك يحمل هذا الشهر لك الكثير، فماذا تقول عنه؟ -بالطبع يحمل لى هذا الشهر ما لا يمكننى أن أنساه، فلا يمكن أن أنسى ما حدث فور تخرجى فى الكلية الحربية عندما استشهد زميلان لى من دفعتى فى معركة الصابحة فى أكتوبر 1955، عندما هجم لواء مدرع إسرائيلى قوامه 101 دبابة على سرية مشاة مصرية قوامها 100 فقط من الضباط والجنود المصريين حيث كانت السرية تتواجد على تبة جبل الصابحة، على الحدود المصرية الإسرائيلية فى القطاع الأوسط، ولنا أن نتخيل خسة الإسرائيليين وكيف يحاربون 100 شخص فقط ليس معهم دبابة واحدة بكتيبة كاملة، لذلك كانت الشهادة من نصيب الكثيرين ومنهم الشهيد حسن حسين إبراهيم والشهيد محمد وصفى وهما من دفعتى، والغريب أنهما استشهدا حتى قبل أن يستلما أول مرتب لهما والذى كان وقتها 11 جنيها و85 قرشا، فلم يكن قد مضى على تخرجهما سوى أيام، حيث تخرجت دفعتنا فى 3 أكتوبر 1955، ثم أخذنا إجازة خمسة أيام وبعدها تم توزيعنا على الوحدات. وما الذى تحمله من ذكريات عن الشهيدين؟ الشهيد حسن كنت ألعب معه كثيرا الإسكواش، فقد كان بطل الجمهورية فيه عامى 54 و55، كما كان وحيد أمه ووالده متوفى، ولا يمكن أن أنسى مشهد وداع والدته له أثناء ركوبنا فى القطار الحربى ليلا، فقد وقفت معنا وكلها تفيض أمومة، لدرجة أنى شعرت وقتها بأنها تملك قلبا أبيض مثل الفستان الذى كانت ترتديه، أما الشهيد وصفى، فقد كان من الأوائل على الدفعة، وصاحب خلق رفيع وماذا عن دورك فى القوات المسلحة وخاصة فى حرب 73 ؟ لقد خدمت فى القوات المسلحة منذ دخولى الكلية الحربية فى بداية الخمسينيات وحتى منتصف الثمانينيات، وفترة كبيرة من خدمتى هذه قضيتها فى سيناء، التى أحفظ كل شبر فيها، ووطأت قدمى كل دروبها وطرقها شمالها وجنوبها ووسطها، أما بالنسبة لحرب أكتوبر فقد كنت وقتها قائد كتيبة مشاة ميكانيكى، وأستطيع أن أقول إن انتصارنا لم يأت وليد المصادفة، بل جاء بعد تعب وجهد كبيرين، وأرى أن من أهم عوامل نجاحنا هو التدريب الجيد والجاد، وسبق ذلك الدراسة الجيدة لأسباب فشلنا فى 67، خصوصا فيما يتعلق بالتخصص، فقد دخلنا حرب أكتوبر وكل واحد فينا يعمل فى مجال تخصصه. وما الذى قامت به الكتيبة فى يوم النصر؟ -لقد أتمت الكتيبة العبور يوم 6 أكتوبر فى تمام الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر، ومهما حاولت أن أصف، فلن أستطيع أن أعبر عن شعورى عندما نظرت للكتيبة بعد العبور، خصوصا بعد أن تأكدت من تمامات قادة السرايا، بأن الكتيبة كاملة ولم يستشهد منها أحد، بل لم يصب أحد منها بجرح . وكانت سعادتى الأكبر أن كل فرد فيها قام بمهمته المكلف بها خير قيام، وأداها باقتدار وشطارة وهمة عالية، ليس هذا فقط بل إن التاريخ سجل لنا ما قمنا به بتدمير لواء زهرة لواءات إسرائيل، وهو اللواء الذى كان يقوده الأسير الشهير عساف ياجورى، الذى منحنى الله شرف أنى كنت قائد الكتيبة التى أسرته . وكيف حدث ذلك ؟ لقد حاول عساف أختراق قطاعنا وما أن وصل فى يوم 8 أكتوبر حتى وجد نفسه أسيرا لجيب نيرانى كنت قد أعددناه له، فدخل فيه» زى الباشا «، وعلى مدار أربع ساعات فقط تم تدمير 85 دبابة إسرائيلية من اللواء الذى يقوده، لذلك قالت جولدا مائير رئيسة الوزاء وقتها وصاحبة لقب المرأة الحديدية، عن هذا اليوم بأنه يوم "الاثنين الحزين" وقال عنه وزير دفاعها موشى ديان "يوم تساقط الدبابات" . وماذا عن عملية أسره؟ عملية أسر عساف ياجورى لم تكن بطولة، فمن كان يراه وقتها وهو يرتعش وسط دباباته وهى تحترق، ولا حول له ولا قوة، كان سيرأف بحاله، لذلك البطولة لم تكن فى أسره ولكن فى تدمير دباباته بالكامل. كيف تم التعامل معه بعد أسره؟ لقد حاول الضباط والجنود الفتك به وقتله هو واثنين من قواته اللذين كتب لهما الحياة معه، ولكنى أصدرت أوامر على الفور بوضعه فى دبابة وحمايته، وكلفت النقيب فاروق فؤاد سليم بمهمة الحفاظ على حياته . ولماذا الحفاظ على حياته؟ لأنى علمت بأنه رتبة كبيرة فى الجيش الإسرائيلى، لذلك أعطيت أوامرى بعدم الاقتراب منه، لأنه لو مات فلن يعطى تأثيرا، ولكن أسر رجل بقامته فى الجيش الإسرائيلى، يعد انتصارا، علاوة على أنه يعد مصدرا مهما للحصول على معلومات منه، وهو ما حدث بالفعل، فما إن هدأت الأمور حتى أرسلت له ليلا وأحضرته إلى خيمتي، وبات هذا الليلة معى وأكل من طعامى ودخن من سجائرى وطوال الليل كنت أستجوبه فعرفت منه أنه تحرك من بير سبع يوم 6 حتى وصل فى مواجهة قطاعنا فجر يوم 8، بهدف اختراقنا من أجل العبور للغرب، ولكن عناصر الاستطلاع لدينا كشفته، فأوقعته كتيبتى التى كانت فى المواجهة هل كانت معلوماته التى أدلى بها كلها صحيحة؟ فى البداية كذب على عندما قال لى بأنه لا يتحدث باللغة العربية، فتحدثت معه بالإنجليزية، ولكن المخابرات فى اليوم الثانى جعلته ينطق بالعربية، وبالطبع كل ما قاله كان صحيحا، لأنه لم يكن أمامه سوى ذلك، فالإسرائيليون يحبون الحياة وكان يعلم أنه لو كذب سيتم قتله، لذلك أخرج كل ما فى جعبته من معلومات خصوصا أننا وجدنا معه قرار الهجوم وخريطة التحرك من رومانة إلى بالوظة ثم محور شرق الفردان، وبعد أن قضيت معه هذه الليلة قمت فى اليوم الثانى بتسليمه للقيادة الأعلى، لذلك لا يمكن أن ينسى عساف ياجورى اسمى، وكذلك اسم النقيب فاروق فؤاد سليم، فلولانا لفتك به الجنود والضباط، وكذلك لن ينسى اسم اللواء حمدى الحديدى، قائد اللواء فى الحرب والذى قابله بعدى، وأذكر أنه فى إحدى زياراته لمصر أثناء عمله بالتجارة، و بعد تركه الخدمة بالجيش الإسرائيلى والموساد، طلب مقابلة اللواء حمدى الحديدى وبالفعل قابله. بذكر اللواء حمدى الحديدى، هل فعلا تم نقله للمستشفى باعتباره فى عداد الشهداء ؟ هذه حقيقة كنت شاهدا عليها، فأثناء وجوده مع مجموعة من الضباط والجنود يوم 19 أكتوبر، فوجئوا بصاروخ ينطلق عليهم من طائرة إسرائيلية، فأصابه الصاروخ بشكل مباشر، وبعض من حوله فتم نقله إلى مستشقى القصاصين ووضع مع الجثث فى عداد الشهداء، وشاء الله أن يدخل أحد الأطباء ثلاجة الموتى ليضع أحد الأموات، ففوجئ به يتحرك، والحمد الله أن كتب له الحياة من جديد بعد بتر ساقيه، لذلك منحته القوات المسلحة نجمة الشرف لدوره الكبير فى الحرب . بعد مضى 40 سنة على الحرب، هل مازالت الصلة تجمعك بزملاء الحرب؟ بالطبع فمنذ أيام قليلة كان هنا فى بيتى 12 ضابطا من اللواءات والعمداء الذين خدموا معى وقد خرجنا جميعا على المعاش، ولكن علاقتنا مستمرة، فهى لم تكن علاقة زمالة حتى تنتهى بانتهاء عملنا ولكنها علاقة دم.