الأحد 2 يونيو 2024 ... نشرة أسعار الخضروات والفاكهة بسوق العبور للجملة    الهدوء يسود المخابز بجنوب سيناء في ثاني أيام تطبق قرار تحريك سعر الرغيف    نائب «المجتمعات العمرانية» يستعرض المشروعات القومية لمدن 6 أكتوبر بالشيخ زايد (تفاصيل)    وزير النقل يشهد استقبال عدد من السفن بمحطة تحيا مصر متعددة الأغراض بميناء الاسكندرية    البرلمان العربي يستنكر محاولة إسرائيل تصنيف الأونروا كمنظمة إرهابية    بعد دعوته للحديث.. كم مرة تكلم نتنياهو أمام الكونجرس؟ وماذا قال؟    حزب الله يشن هجوما جويا بسرب من المسيرات الانقضاضية على مقر كتيبة إسرائيلية في الجولان    وسام أبو علي: أريد التسجيل ضد الزمالك.. ضغطت للانضمام للأهلي.. وهذا سر احتفالي    لاعب الدحيل ليس آخرهم.. الأهلي يبحث عن «مزدوجي الجنسية» لحل مشكلة الأجانب    محامي الشيبي: عقوبة اتحاد الكرة استفزت موكلي.. وتم إخفاء قرار الانضباط    «هل اللي خلقه مخلقش غيره؟».. شوبير عن عودة نجم الزمالك السابق    إعلان نتيجة الشهادة الإعدادية بالمنيا خلال ساعات    محافظ شمال سيناء يتفقد امتحانات الثانوية الأزهرية بمعاهد العريش    إحالة تشكيل عصابي لسرقة الدرجات النارية بالقطامية للمحاكمة    ل برج الجوزاء والعقرب والسرطان.. من أكثرهم تعاسة في الزواج 2024؟    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر بل هو مستحب    قبل عيد الأضحى 2024.. أيهما أفضل الأضحية أم الصدقة؟ (الإفتاء توضح)    غرفة الرعاية الصحية: تعاون وثيق بين القطاع الخاص ووزارة الصحة في صياغة قانون المنشآت الصحية    بجلسته العامة اليوم.. مجلس النواب يناقش موازنة 24/25 بمقره في العاصمة الإدارية    "العميد متفهم".. نجم الزمالك السابق يتحدث عن مكسب صلاح ومشاركة الشناوي أمام بوركينا    احمد مجاهد يكشف حقيقة ترشحه لرئاسة اتحاد الكرة    وزيرا دفاع كوريا الجنوبية وأمريكا يدينان استفزازات كوريا الشمالية" الطائشة"    مسبار صيني يهبط على الجانب البعيد من القمر    جيش الاحتلال الإسرائيلي ينفذ غارات على أهداف في لبنان    10 يونيو.. معارضة الفنان أحمد جلال على حكم حبسه في قضية مخدرات    هربا من مشاجرة.. التحقيق في واقعة قفز شاب من الطابق الرابع بأكتوبر    فصائل عراقية: قصفنا هدفا حيويا في مدينة إيلات جنوب إسرائيل بواسطة الطائرات المسيرة    استحداث جائزة جديدة باسم "الرواد" بجامعة القاهرة.. التفاصيل وقيمتها المادية    بحضور البابا تواضروس.. احتفالية "أم الدنيا" في عيد دخول السيد المسيح أرض مصر    مى عز الدين تطلب من جمهورها الدعاء لوالدتها بالشفاء العاجل    العليا للحج والعمرة: انتظام أعمال تفويج حجاج السياحة وتكاتف لإنجاح الموسم    جامعة المنيا تفوز بثلاثة مراكز مُتقدمة على مستوى الجامعات المصرية - تعرف عليها    هل يجوز أن اعتمر عن نفسي واحج عن غيري؟.. الإفتاء توضح    مقترح برلماني لإلغاء درجات "الحافز الرياضي" لطلاب الثانوية    طريقة عمل الكيكة الباردة بدون فرن في خطوات سريعة.. «أفضل حل بالصيف»    منحة عيد الأضحى 2024 للموظفين.. اعرف قيمتها وموعد صرفها    ما هي محظورات الحج المتعلقة بالنساء والرجال؟.. أبرزها «ارتداء النقاب»    «الإفتاء» توضح حكم التصوير أثناء الحج والعمرة.. مشروط    لتحسين أداء الطلاب.. ماذا قال وزير التعليم عن الثانوية العامة الجديدة؟    مواعيد قطارات عيد الأضحى المقرر تشغيلها لتخفيف الزحام    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى بولاق الدكرور دون إصابات    وزير الري يؤكد عمق العلاقات المصرية التنزانية على الأصعدة كافة    «أوقاف شمال سيناء» تنظم ندوة «أسئلة مفتوحة عن مناسك الحج والعمرة» بالعريش    إضافة 3 مواد جدد.. كيف سيتم تطوير المرحلة الإعدادية؟    ورشة حكي «رحلة العائلة المقدسة» ومحطات الأنبياء في مصر بالمتحف القومي للحضارة.. الثلاثاء    استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 2 يونيو 2024    «خبرة كبيرة جدًا».. عمرو السولية: الأهلي يحتاج التعاقد مع هذا اللاعب    أحمد موسى: الدولة تتحمل 105 قروش في الرغيف حتى بعد الزيادة الأخيرة    عمرو أدهم يكشف آخر تطورات قضايا "بوطيب وساسي وباتشيكو".. وموقف الزمالك من إيقاف القيد    الصحة تكشف حقيقة رفع الدعم عن المستشفيات الحكومية    قصواء الخلالى ترد على تصريحات وزير التموين: "محدش بقى عنده بط ووز يأكله عيش"    من شوارع هولندا.. أحمد حلمي يدعم القضية الفلسطينية على طريقته الخاصة (صور)    بعد حديث «حجازي» عن ملامح تطوير الثانوية العامة الجديدة.. المميزات والعيوب؟    17 جمعية عربية تعلن انضمامها لاتحاد القبائل وتأييدها لموقف القيادة السياسية الرافض للتهجير    ألمانيا تعلن عن نظام جديد لجلب العمال المهرة دون شرط التعاقد مع الشركات    طبيب مصري أجرى عملية بغزة: سفري للقطاع شبيه بالسفر لأداء الحج    السفير نبيل فهمى: حرب أكتوبر كانت ورقة ضغط على إسرائيل أجبرتهم على التفاوض    صحة الإسماعيلية: بدء تشغيل حضانات الأطفال بمستشفى التل الكبير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سكان المقابر من يتذكرهم فى العيد؟..«أحياء» وسط «الموتى»
نشر في الأهرام العربي يوم 15 - 10 - 2013


صلاح غراب
سئموا من الحياة وسط الأحياء، الذين طالهم ضررهم، وأذاهم شرهم، فلجأوا إلى الموتى، لعل جوارهم يكون أكرم وأسلم، حيث لا تنافس على شىء من أعراض الدنيا الفانية، لا حقد، لا غل، لا حسد.. هذه المقابر ربما تكون سكناهم الأخيرة، امتزجت حياتهم بنكهة الموت فيها، حين ضاقت بهم الحياة، حيث لا مكان، ولا خدمات، ولا جيران سوى سكان المقابر.
يعيشون فى سكون مريع، وصمت مريب، لا يقطعه سوى صراخ النائحات، ونواح الأرامل، وأنين الثكلى، وآهات المعذبين بألم الفراق، والملتاعين بلوعة البُعاد، وبكاء الأولاد والشباب الذين يتبعون ذويهم الموتى، أثناء تشييعهم لمثواهم الأخير.
من يطبب جراحهم الغائرة؟ من يشفى آلامهم المثخنة؟ من يكفكف دمعهم؟ من يمسح عنهم حزنهم؟ من يتذكرهم إلا عند تشييع الموتى؟ أم أن المسئولين وأولى الأمر فى هذا البلد يطبقون قول الله تبارك وتعالى: "هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا"، ويعملون به تجاه رعاياهم؟ فالأموات مثلا ليسوا بحاجة للمال، ولذلك فهم لا يُقرضون، ولا يستقرضون، كل منهم قانع بما خُصِّصَ له من مأوى يمد فيه عظام جسمه براحة وسلام، وكل منهم قانع بدينه لا يسأل جاره عن معتقده، أو عن أصله، أو لونه. وحدهم الأحياء يفعلون ذلك، وكم من الناس يذهبون إلى فراشهم دون أن يعرفوا طعما للراحة، لأنهم أقرضوا من لا يؤتمنون على دَيْن..الأموات لا يتجسسون، ولا يكتبون، ولا يستعملون التليفون أو الفاكس. وحدهم هم الأحياء الذين يُخشى جانبهم، وهم فقط، الذين يثيرون الشائعات، ويفضحون الأسرار، ويكتبون التقارير. مساكين الأموات، لا يتحركون من مواضعهم، لا يسرقون مال غيرهم، ولا يأكلون تعب أحد، أو يهددون أحدا. لا بل هم آمن الناس، إذا ما استودِعوا مالاً فلا يبتلعونه، أو يستثمرونه دون إذن أصحابه.
يحلم هؤلاء بالخروج إلى عالم الأحياء، تتنازعهم أحلام غير مستحيلة، فقط الخروج مما هم فيه، ولا سيما أن الحسرة تسكن قلوبهم، يصحون على منظر شواهد القبور الصماء، وينامون عليها، لا يسمعون سوى صمت الموتى، أو بكاء أقاربهم، وأصبح كل شىء فى حياتهم يعبر عن الموت الذى يحاصرهم من كل جانب، خاصة أن هناك العديد من الوعود التى تلقوها دون أن يتحقق شىء منها.
والسؤال الذى يطرح نفسه، ولا أحد يجيب عنه هو: من السبب فى هذه الحياة التى تشبه الموت، والتى يحياها هؤلاء المنسيون؟، هل كُتب عليهم أن يعيشوا أمواتا وهم لا يزالون بعد أحياء، تنبض فيهم العروق، وتدب فيهم الحياة؟ هل فُرضت عليهم هذه الحياة البائسة، بسبب حكومات أهملتهم، بل نسيتهم، ومسئولين لم يعيروهم أدنى اهتمام، بل لم يعاملوهم حتى كبشر ومواطنين مصريين؟.
ماهر محمود- تُربى بمقابر سيدى عمر بن الفارض بمنطقة الأباجية والذى يقيم هناك- بادرنى بالقول: لا أحد يشعر بنا نحن سكان المقابر، الحكومة أهملتنا، والمسئولون تجاهلونا، ولم يعيرونا أدنى اهتمام، وكأننا لاجئون، ولسنا من هذا البلد، ولذلك ضاقت علينا الأرض بما رحبت، واسودت الدنيا فى وجوهنا، وأُغلقت أمامنا أبواب الرحمة، وسُدت أمامنا سبل العدالة، ولم نجد منجا ولا ملجأ من الله إلا إليه، ولم يعد لنا من سبيل سوى رفقة الموتى، نقاسمهم السكنى والمأوى. وأضاف ماهر بعينين زائغتين: لقد هربنا إلى هنا بعد أن لم يسعنا الأحياء، فوسعنا الموتى، عسانا ننعم براحة البال معهم. وعندما سألته كيف تعيشون هنا، حيث لا وجود لأدنى مقومات لأبسط حياة؟ تنهد كأنما أزاح عن صدره جبلا، وقال يا أستاذ نحن اتخذنا هذه المقابر سكنا لنا جبرا وقسرا، رغما عنا، مجبرين غير مختارين، ونفتقد هنا لأبسط ضروريات الحياة. ويستطرد ماهر محمود: أطالب الدولة بتوفير مأوى ومساكن لنا، حتى نحس أننا أحياء، وأننا لا نزال من هذا البلد الذى أهملنا ونسينا، بل وأخرجنا من حساباته على الإطلاق، وكأننا لسنا مصريين، وهبطنا على البلد من كوكب آخر. ويطالب المسئولين بأن ينظروا إلى سكان المقابر بعين العطف مثل المواطنين فى باقى الأحياء الأخرى التى يتم توصيل المرافق لها.
وبعين يملؤها الحزن والانكسار، أشار ماهر محمود، إلى أبنائه الذين يلعبون فى "حوش" القبر الذى يسكنه، وقال: فى أى شرع يلعب هؤلاء على رفات الأجساد؟ أليسوا مثل أقرانهم الذين يمرحون فى الملاهى، ويتنسمون عبير الهواء فى المتنزهات، بدلا من أن يشموا رائحة الأجساد النخرة، والعظام البالية؟ هل كتب على أنا وأبنائى أن نحيا هذه الحياة التى تشبه الموت؟. سألته: كيف يمر عليكم العيد هنا؟، أجاب بألم وأسى: يأتى العيد كل عام، ويفرح الناس، ونظل نحن أسرى الهم والحزن، ويأكل الناس مختلف أنواع اللحوم، ولا نجد نحن هنا إلا العظام النخرة، وبقايا الأجساد البالية. إذا كان الأمر يقتصر علينا، فلا يهم، فقد تعودنا على هذا، ولكن ما يحز فى نفسى هم أولادى، فبأى ذنب يُحرمون من فرحة العيد مثل باقى أقرانهم؟، وأى جريرة اقترفوها لكى يحيوا حياتنا التى لم نخترها. وبعين غطتها الدموع، ووجه ملأه الانكسار، ويد كساها التراب، رفعها ماهر إلى السماء، داعيا على الحكومة والمسئولين فى هذا البلد ، قائلا: حسبى الله ونعم الوكيل.
عز أبو سبحة تُربى بمقابر السيدة عائشة أشار إلى أننا نعيش هنا حياة بائسة تعيسة، فى ظل حكومات الحزب الوطنى التى أفقرت غالبية الشعب المصرى، وفرضت علينا حياة لا نذوق فيها طعم الراحة. حتى عندما تغيرت الحكومات، وتبدل المسئولون، استبشرنا خيرا، وقلنا إن حالنا ستتغير إلى الأحسن، وسنعيش مع الأحياء، ولكن- يستطرد مقطبا جبينه، متمتما بشفتيه- بقيت حالنا كما هى لم تتغير، وبقى وضعنا كما هو لم يتبدل. ويتابع عز رافعا يديه إلى السماء كمن يدعو على أحد: إذا كانت الحكومات قد نسيتنا، فإن الله لن ينسانا. وإذا كان المسئولون قد أهملونا، وأضربوا عنا صفحا، فإن الله سيتكفل بنا ويرعانا. ثم يُذكر عز الحكومة الحالية، ناصحا لها: كم من وعود قطعتها كل الحكومات السابقة على نفسها لتوفير مأوى لنا، ثم لا تلبث هذه الوعود أن تتبخر، وتذهب أدراج الرياح سدى، لنظل نتجرع المرارة والألم والعذاب، وتمر علينا الأعياد لا نعرف طعم الفرحة، ولا نحس بالسعادة، ولا نشعر بالسرور، كما أقراننا الذين هجرناهم، ننتظر الإحسان من الآخرين، وأملنا الحصول على لقمة عيش تملأ بطوننا الخاوية، وملابس رثة تستر أجسادنا العارية، ويد حانية تربت على ظهورنا المحنية، وابتسامة تبدد الجزع الذى سكن عيوننا، والفزع الذى عشش فى مآقينا.
ما إن شاهدنا أطفال المقابر، حتى جروا وراءنا، عسى أن يظفروا منا بشىء، ظنا منهم أننا أصحاب حالة وفاة، قائلين: بالرحمة- خبزا كان أو مالا- إنها مأساة حقيقية تلك التى يعيشها أطفال المقابر، فأقرانهم من الأطفال عادة ما يذهبون إلى متنزهات يلهون فيها، وحدائق يلعبون حول أشجارها، يركضون هنا وهناك. إلا أنه عند سكان المقابر، تشابهت اللعبة، واختلف المكان، فهم يلعبون حول القبور، ويتخذونها مكانا للاختباء من أقرانهم، بدلا من أن يختبئوا فى بيت الزواحف مثلا، أو بيت القرود، وهم يشمون رائحة العظام النخرة، والأجساد البالية، بدل أن يتنسموا عبير الأزهار، ورائحة الورد، وهم يمشون ويجرون على رفات الموتى، بدلا من أن يمشوا على الزرع والأرض الخضراء. إنهم قد ألفوا المكان، واعتادوا عليه، وأصبح جزءا منهم، تربوا على مشاهد الحفر، ودفن جثث الموتى، وباتت الزيارة اليومية للقبور والدعاء للأموات هواية بالنسبة للكثيرين منهم. وأضحى المشهد بالنسبة لهم عاديا، ترسخ فى ذاكرتهم. إلا أن هذا كله لا يؤثر فى لهوهم ولعبهم، كل شىء فى حياتهم ارتبط بالموت، حتى ابتساماتهم اختفت لتحل محلها هموم عميقة أكبر من أعمارهم.
وأنا أصور، شاهدتنى سيدة عجوز، فسألتنى وهى فرحة: هل سنحصل على الشقة التى وعدنا بها زملاؤك فى التليفزيون الذين كانوا هنا من قبلك، وصوروا كيف نعيش؟ وقبل أن أنطق، دهمتنى وباغتتنى قائلة: منذ أكثر من عشر سنوات، وأنتم تأتون إلى هنا تصورون، ولا تفعلون شيئا. كم وعدنا المسئولون بشقق، «وادى وش الضيف». وقبل أن أنصرف، رفعت يديها إلى السماء، وقالت: حسبى الله ونعم الوكيل فى الحكومة والمسئولين الذين يعيشون فى واد، والشعب يعيش فى واد آخر، هم يعيشون فى الفيلات والقصور، ونحن نعيش مع الأموات فى القبور، وأولادنا سيرثون مصيرنا نفسه، إن لم يستيقظ الضمير عند من ماتت ضمائرهم، وتحيا قلوب من قست قلوبهم، حتى أصبحت كالجحارة أو أشد قسوة .
معاناة استمرت سنوات وسنوات، ولا تزال: ضيق، فقر، وحزن، وبطالة تخيم على المكان، ومع ذلك تبقى أحلامهم بسيطة، على الرغم من همومهم الكبيرة، ينتظرون بصبر حلا قد يلمسونه يوما، وينتشلهم من وسط القبور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.