صلاح غراب سئموا من الحياة وسط الأحياء، الذين طالهم ضررهم، وأذاهم شرهم، فلجأوا إلى الموتى، لعل جوارهم يكون أكرم وأسلم، حيث لا تنافس على شىء من أعراض الدنيا الفانية، لا حقد، لا غل، لا حسد.. هذه المقابر ربما تكون سكناهم الأخيرة، امتزجت حياتهم بنكهة الموت فيها، حين ضاقت بهم الحياة، حيث لا مكان، ولا خدمات، ولا جيران سوى سكان المقابر. يعيشون فى سكون مريع، وصمت مريب، لا يقطعه سوى صراخ النائحات، ونواح الأرامل، وأنين الثكلى، وآهات المعذبين بألم الفراق، والملتاعين بلوعة البُعاد، وبكاء الأولاد والشباب الذين يتبعون ذويهم الموتى، أثناء تشييعهم لمثواهم الأخير. من يطبب جراحهم الغائرة؟ من يشفى آلامهم المثخنة؟ من يكفكف دمعهم؟ من يمسح عنهم حزنهم؟ من يتذكرهم إلا عند تشييع الموتى؟ أم أن المسئولين وأولى الأمر فى هذا البلد يطبقون قول الله تبارك وتعالى: "هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا"، ويعملون به تجاه رعاياهم؟ فالأموات مثلا ليسوا بحاجة للمال، ولذلك فهم لا يُقرضون، ولا يستقرضون، كل منهم قانع بما خُصِّصَ له من مأوى يمد فيه عظام جسمه براحة وسلام، وكل منهم قانع بدينه لا يسأل جاره عن معتقده، أو عن أصله، أو لونه. وحدهم الأحياء يفعلون ذلك، وكم من الناس يذهبون إلى فراشهم دون أن يعرفوا طعما للراحة، لأنهم أقرضوا من لا يؤتمنون على دَيْن..الأموات لا يتجسسون، ولا يكتبون، ولا يستعملون التليفون أو الفاكس. وحدهم هم الأحياء الذين يُخشى جانبهم، وهم فقط، الذين يثيرون الشائعات، ويفضحون الأسرار، ويكتبون التقارير. مساكين الأموات، لا يتحركون من مواضعهم، لا يسرقون مال غيرهم، ولا يأكلون تعب أحد، أو يهددون أحدا. لا بل هم آمن الناس، إذا ما استودِعوا مالاً فلا يبتلعونه، أو يستثمرونه دون إذن أصحابه. يحلم هؤلاء بالخروج إلى عالم الأحياء، تتنازعهم أحلام غير مستحيلة، فقط الخروج مما هم فيه، ولا سيما أن الحسرة تسكن قلوبهم، يصحون على منظر شواهد القبور الصماء، وينامون عليها، لا يسمعون سوى صمت الموتى، أو بكاء أقاربهم، وأصبح كل شىء فى حياتهم يعبر عن الموت الذى يحاصرهم من كل جانب، خاصة أن هناك العديد من الوعود التى تلقوها دون أن يتحقق شىء منها. والسؤال الذى يطرح نفسه، ولا أحد يجيب عنه هو: من السبب فى هذه الحياة التى تشبه الموت، والتى يحياها هؤلاء المنسيون؟، هل كُتب عليهم أن يعيشوا أمواتا وهم لا يزالون بعد أحياء، تنبض فيهم العروق، وتدب فيهم الحياة؟ هل فُرضت عليهم هذه الحياة البائسة، بسبب حكومات أهملتهم، بل نسيتهم، ومسئولين لم يعيروهم أدنى اهتمام، بل لم يعاملوهم حتى كبشر ومواطنين مصريين؟. ماهر محمود- تُربى بمقابر سيدى عمر بن الفارض بمنطقة الأباجية والذى يقيم هناك- بادرنى بالقول: لا أحد يشعر بنا نحن سكان المقابر، الحكومة أهملتنا، والمسئولون تجاهلونا، ولم يعيرونا أدنى اهتمام، وكأننا لاجئون، ولسنا من هذا البلد، ولذلك ضاقت علينا الأرض بما رحبت، واسودت الدنيا فى وجوهنا، وأُغلقت أمامنا أبواب الرحمة، وسُدت أمامنا سبل العدالة، ولم نجد منجا ولا ملجأ من الله إلا إليه، ولم يعد لنا من سبيل سوى رفقة الموتى، نقاسمهم السكنى والمأوى. وأضاف ماهر بعينين زائغتين: لقد هربنا إلى هنا بعد أن لم يسعنا الأحياء، فوسعنا الموتى، عسانا ننعم براحة البال معهم. وعندما سألته كيف تعيشون هنا، حيث لا وجود لأدنى مقومات لأبسط حياة؟ تنهد كأنما أزاح عن صدره جبلا، وقال يا أستاذ نحن اتخذنا هذه المقابر سكنا لنا جبرا وقسرا، رغما عنا، مجبرين غير مختارين، ونفتقد هنا لأبسط ضروريات الحياة. ويستطرد ماهر محمود: أطالب الدولة بتوفير مأوى ومساكن لنا، حتى نحس أننا أحياء، وأننا لا نزال من هذا البلد الذى أهملنا ونسينا، بل وأخرجنا من حساباته على الإطلاق، وكأننا لسنا مصريين، وهبطنا على البلد من كوكب آخر. ويطالب المسئولين بأن ينظروا إلى سكان المقابر بعين العطف مثل المواطنين فى باقى الأحياء الأخرى التى يتم توصيل المرافق لها. وبعين يملؤها الحزن والانكسار، أشار ماهر محمود، إلى أبنائه الذين يلعبون فى "حوش" القبر الذى يسكنه، وقال: فى أى شرع يلعب هؤلاء على رفات الأجساد؟ أليسوا مثل أقرانهم الذين يمرحون فى الملاهى، ويتنسمون عبير الهواء فى المتنزهات، بدلا من أن يشموا رائحة الأجساد النخرة، والعظام البالية؟ هل كتب على أنا وأبنائى أن نحيا هذه الحياة التى تشبه الموت؟. سألته: كيف يمر عليكم العيد هنا؟، أجاب بألم وأسى: يأتى العيد كل عام، ويفرح الناس، ونظل نحن أسرى الهم والحزن، ويأكل الناس مختلف أنواع اللحوم، ولا نجد نحن هنا إلا العظام النخرة، وبقايا الأجساد البالية. إذا كان الأمر يقتصر علينا، فلا يهم، فقد تعودنا على هذا، ولكن ما يحز فى نفسى هم أولادى، فبأى ذنب يُحرمون من فرحة العيد مثل باقى أقرانهم؟، وأى جريرة اقترفوها لكى يحيوا حياتنا التى لم نخترها. وبعين غطتها الدموع، ووجه ملأه الانكسار، ويد كساها التراب، رفعها ماهر إلى السماء، داعيا على الحكومة والمسئولين فى هذا البلد ، قائلا: حسبى الله ونعم الوكيل. عز أبو سبحة تُربى بمقابر السيدة عائشة أشار إلى أننا نعيش هنا حياة بائسة تعيسة، فى ظل حكومات الحزب الوطنى التى أفقرت غالبية الشعب المصرى، وفرضت علينا حياة لا نذوق فيها طعم الراحة. حتى عندما تغيرت الحكومات، وتبدل المسئولون، استبشرنا خيرا، وقلنا إن حالنا ستتغير إلى الأحسن، وسنعيش مع الأحياء، ولكن- يستطرد مقطبا جبينه، متمتما بشفتيه- بقيت حالنا كما هى لم تتغير، وبقى وضعنا كما هو لم يتبدل. ويتابع عز رافعا يديه إلى السماء كمن يدعو على أحد: إذا كانت الحكومات قد نسيتنا، فإن الله لن ينسانا. وإذا كان المسئولون قد أهملونا، وأضربوا عنا صفحا، فإن الله سيتكفل بنا ويرعانا. ثم يُذكر عز الحكومة الحالية، ناصحا لها: كم من وعود قطعتها كل الحكومات السابقة على نفسها لتوفير مأوى لنا، ثم لا تلبث هذه الوعود أن تتبخر، وتذهب أدراج الرياح سدى، لنظل نتجرع المرارة والألم والعذاب، وتمر علينا الأعياد لا نعرف طعم الفرحة، ولا نحس بالسعادة، ولا نشعر بالسرور، كما أقراننا الذين هجرناهم، ننتظر الإحسان من الآخرين، وأملنا الحصول على لقمة عيش تملأ بطوننا الخاوية، وملابس رثة تستر أجسادنا العارية، ويد حانية تربت على ظهورنا المحنية، وابتسامة تبدد الجزع الذى سكن عيوننا، والفزع الذى عشش فى مآقينا. ما إن شاهدنا أطفال المقابر، حتى جروا وراءنا، عسى أن يظفروا منا بشىء، ظنا منهم أننا أصحاب حالة وفاة، قائلين: بالرحمة- خبزا كان أو مالا- إنها مأساة حقيقية تلك التى يعيشها أطفال المقابر، فأقرانهم من الأطفال عادة ما يذهبون إلى متنزهات يلهون فيها، وحدائق يلعبون حول أشجارها، يركضون هنا وهناك. إلا أنه عند سكان المقابر، تشابهت اللعبة، واختلف المكان، فهم يلعبون حول القبور، ويتخذونها مكانا للاختباء من أقرانهم، بدلا من أن يختبئوا فى بيت الزواحف مثلا، أو بيت القرود، وهم يشمون رائحة العظام النخرة، والأجساد البالية، بدل أن يتنسموا عبير الأزهار، ورائحة الورد، وهم يمشون ويجرون على رفات الموتى، بدلا من أن يمشوا على الزرع والأرض الخضراء. إنهم قد ألفوا المكان، واعتادوا عليه، وأصبح جزءا منهم، تربوا على مشاهد الحفر، ودفن جثث الموتى، وباتت الزيارة اليومية للقبور والدعاء للأموات هواية بالنسبة للكثيرين منهم. وأضحى المشهد بالنسبة لهم عاديا، ترسخ فى ذاكرتهم. إلا أن هذا كله لا يؤثر فى لهوهم ولعبهم، كل شىء فى حياتهم ارتبط بالموت، حتى ابتساماتهم اختفت لتحل محلها هموم عميقة أكبر من أعمارهم. وأنا أصور، شاهدتنى سيدة عجوز، فسألتنى وهى فرحة: هل سنحصل على الشقة التى وعدنا بها زملاؤك فى التليفزيون الذين كانوا هنا من قبلك، وصوروا كيف نعيش؟ وقبل أن أنطق، دهمتنى وباغتتنى قائلة: منذ أكثر من عشر سنوات، وأنتم تأتون إلى هنا تصورون، ولا تفعلون شيئا. كم وعدنا المسئولون بشقق، «وادى وش الضيف». وقبل أن أنصرف، رفعت يديها إلى السماء، وقالت: حسبى الله ونعم الوكيل فى الحكومة والمسئولين الذين يعيشون فى واد، والشعب يعيش فى واد آخر، هم يعيشون فى الفيلات والقصور، ونحن نعيش مع الأموات فى القبور، وأولادنا سيرثون مصيرنا نفسه، إن لم يستيقظ الضمير عند من ماتت ضمائرهم، وتحيا قلوب من قست قلوبهم، حتى أصبحت كالجحارة أو أشد قسوة . معاناة استمرت سنوات وسنوات، ولا تزال: ضيق، فقر، وحزن، وبطالة تخيم على المكان، ومع ذلك تبقى أحلامهم بسيطة، على الرغم من همومهم الكبيرة، ينتظرون بصبر حلا قد يلمسونه يوما، وينتشلهم من وسط القبور.