بعيدا عن أى اتجاهات سياسية، وتأكيدا على أننى لم ولن أنتمى يوما إلى حزب أى فصيل بعينه، ننقل صورة حية من ميدان رابعة العدوية بسلبياته وإيجابياته، دون أن نصور المتظاهرين على أنهم ملائكة أو حتى شياطين، حيث من الطبيعى لو كانت هناك أسلحة فهى مختفية، وإن كان هناك مأجورون فلن يفصحوا عن أنفسهم، لأن هذا ما يحدث فى أى تجمعات، لأن هناك أطرافا أخرى من مصلحتها استغلال هذه التجمعات فى نشر الفساد والبلطجة. اتصلت بصديق لى من متظاهرى رابعة حتى يساعدنى فى الدخول إلى الميدان حتى لا يمنعنى أحد كونى أنتمى إلى مؤسسة الأهرام، التى انتقد البعض من جماعة الإخوان أداءها فى الفترة الأخيرة، لكن صديقى أصر على أن أدخل بمفردى لأتأكد من أن أحدا لن يمنعنى أو يعترض على دخولى، وبالفعل بمجرد أن أخرجت هويتى الصحفية رحب بى المسئول عن تأمين البوابة حتى إننى لم أتعرض للتفتيش مثل الباقين، وتأكيدا على هذا قمت بالخروج والدخول من ثلاث بوابات مختلفة، لكن يحدث نفس الشئ «اتفضل يا أستاذ».. ولم أتعرض للتفتيش سوى مرة واحدة فقط، لكن من الطبيعى أن تكون هناك حالة من الاحتقان بداخل متظاهرى رابعة وقياداتهم تجاه بعض القنوات الفضائية لما يشاهدونه على شاشاتها والتى تصورهم على أنهم مغيبون وبعضهم دمويون. أعداد غفيرة كانت بالميدان، رجال ونساء كل فى خيامه يقرأون القرآن الكريم، وآخرون يسيرون فى زفة بالدفوف ينددون بما اعتبروه «انقلابا عسكريا» ضد مرسى وشرعيته، مرددين هتافات: «قالوا بنزين قالوا كهرباء.. طلعت خطة متدربة»، و»اقتل واحد اقتل 100 مش هنسيبها للبلطجية»، بالإضافة إلى أنهم يرفعون صورا للفريق عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع وعليها علامة (x) وغيرها للبرادعى، ولافتة كبيرة عليها صور بعض مذيعى القنوات الفضائية مكتوبا عليها «شركة مجازر مصر للسينما» تقدم أوبريت الليلة الكبيرة، ومكتوبا أيضا «الليلة الكبيرة ياعم والفلول كثيرة.. نازلين الشوارع يابا بالسنج والمطاوى» وتضم اللافتة أيضا صورا لحمدين صباحى وعمرو حمزاوى والمستشار أحمد الزند. وأثناء تجوالى بالميدان وجدت شخصا يحمل فوق ظهره عبوة بلاستيكية «جركن» موصلا بها خرطوما طويلا يخرج من فوهته سائل على هيئة رذاذ، هيئته تدل على أنه يرش مبيدات حشرية، وهى إحدى السلبيات، لذلك أعتقدت للوهلة الأولى أننى اكتشفت سر الوقاية من الأمراض الجلدية، حيث كان يتردد أن الأمراض الجلدية منتشرة بشكل كبير فى ميدان التحرير بسبب تكدس المتظاهرين، وأن هناك من يقوم برش أنواع من الأدوية عليهم.. اقتربت من الرجل اعتقد أننى أطالبه «برشة» وبالفعل رش فى وجهى فسألته عما تحتويه العبوة، قال إنها مياه يقوم برشها للتخفيف عن المتظاهرين من حدة الحر الشديد حتى لا يصابون بضربات شمس. يوم فى رابعة بعد أن تجولت فى الميدان لأكثر من ساعتين قبل أذان المغرب لم أجد فيها خيمة واحدة مغلقة تدل على أنها مخصصة للخلوة الشرعية كما تردد أخيرا.. عثرت على صديقى بعد اتصال هاتفى ودعانى للدخول إلى الخيمة، وبمجرد أن قال لهم إننى صحفى من الأهرام، علت نبرات السخرية من الجميع، «تعالى نوريك المولوتوف اللى إحنا شايلينه» و»إحنا مخبيين السنج والمطاوى تحت الفرش» و»أنت مش خايف تقرب مننا يجيلك جرب.. أصل إحنا جربانين». اقتربت من أحد الشباب اسمه أحمد لأتعرف منه عن يومه فى الميدان، فقال: إنه ينام بعد صلاة الفجر ويستيقظ قبل صلاة الظهر، ثم يقوم بتنظيف الخيمة وكشف سقفها حتى تدخلها الشمس لتطهرها من أى شئ، وهو ما يفعله كل المكلفين بتنظيف الخيام، ثم يقوم بكنسها ووضع المخلفات فى أكياس بلاستيكية حتى يمر مسئولو النظافة فى الميدان لحملها فى عربة كبيرة، بعدها يستعد لصلاة الظهر، وبعد العصر يتم الاتفاق على وجبة الإفطار حيث تقوم كل مجموعة فى خيمة واحدة بجمع الأموال لشراء الإفطار من محلات الوجبات الجاهزة المنتشرة بالمنطقة. كلام أحمد دعانى أن أسأله عن حقيقة المطبخ الموجود فى الميدان والموائد الحرة، قال لى إن الطبخ مخصص لخدمة غير القادرين على توفير وجبة الإفطار وأغلبهم من المحافظات، حيث إنه ليس من المعقول أن يتحمل يوميا ما يقرب من 25 جنيها ثمن وجبة الإفطار، وبالتالى يقوم هؤلاء الأشخاص بالذهاب إلى المطعم والوقوف فى الطوابير لاستلام الوجبات حسب العدد. فى أثناء تجوالى معه أشار إلى عربة كبيرة مغطاة وقال لى إن هذه هى عربة التليفزيون التى اتهمونا باحتجازها، وقفت أمام العربة وقلت له لكنكم بالفعل احتجزتوها، قال الحقيقة إن المتظاهرين احتجزوا العربة التى وجدت عند ميدان النهضة أما هذه فلم يحدث ولم يأت أحد للمطالبة بها، سألته ولماذا احتجزتم العربة عند ميدان النهضة؟ قال: لأننا لو تركنا العربة ترحل، ما كانت القنوات المحايدة التى تنقل صورة حية من الميدان استطاعت البث، ونحن فى حاجة إلى من يعرض آراءنا وأصواتنا ومطالبنا. دورات المياه الميدانية كان لزاما علىَّ معاينة دورات المياة التى تم بناؤها مكان جراج السيارات الخاص بالأطباء العاملين بمستشفى رابعة العدوية، دخلت وجدت مجموعة دورات مياه متراصة جانب بعضها بعضا معلقا على كل واحدة منها ستارة بدلا من الأبواب، وهى مخصصة للرجال فقط، أما النساء فيستخدمن دورات مياه مسجد رابعة، لكن الساحة الموجودة أمام دورات المياه تسبح فى المياه المخلفة عن الوضوء، وهى ساحة غير نظيفة بالمرة وربما تتسبب فى انتشار الذباب، والحقيقة أن دورات المياه بالميدان جميعها تنقصها النظافة نظرا للضغط الشديد عليها، للأعداد الغفيرة التى أتت من المحافظات. كانت المقارنة بميدان التحرير هى بطل المشهد، فكلما أسأل سؤال أتلقى إجابته «اشمعنى ميدان التحرير»، وهو ما حدث عندما سألته عن التلوث الناتج عن هذه المياه، أجابنى يعنى فى ميدان التحرير مكنش فيه تلوث وكان المتظاهرون يستخدمون دورات المياه الخاصة بالمحلات المغلقة والمدارس لمدة 18 يوما وهو ما يساعد على انتشار التلوث، أيضا حدثت نفس المقارنة عندما استضافونى بالخيمة، حيث قالوا لماذا اعتقدت الناس حسن النية فى التحرير، فى حين اتهمونا نحن بالإرهاب والسلوك السئ والهمجية. عدنا إلى الخيمة حيث اقترب موعد أذان المغرب، وأثناء عودتنا قابلنا شابا يعرف مرافقى جيدا، حيث صافحه وعرفه بى، واستقبلنى كالعادة بالسخرية، حيث قال «الأهرام.. يعنى هاتنشروا اللى هنقوله»، وعدته بذلك فقال لى: إنه أمين شباب بحزب الوسط وجاء إلى الميدان رافضا للطريقة التى أقصى بها الرئيس مرسى عن الحكم. أخذنا الحديث حتى رفع أذان المغرب، فدخلنا جميعا إلى الخيمة وتناولنا التمر، ثم «تمر هندى» وقمنا لأداء صلاة المغرب، الغريب أنه عقب كل صلاة يردد المعتصمون كلمة «حسبى الله ونعم الوكيل» ثلاث مرات، ثم أخرج أحدهم شنطة كبيرة تحتوى على مجموعة من اللفافات، ونظر إلى قائلا: «مش عاوز تاكل كنتاكى بتاعنا»، فى إشارة منه إلى التهم التى كان يلقيها البعض على متظاهرى التحرير فى 25 يناير. كانت كل وجبة عبارة عن ربع فرخة مشوية وطبق من الأرز وخيار مخلل، تم شراؤها من أحد محلات الوجبات الجاهزة، أما الوجبات الزائدة فيتم إعطاؤها إلى أى محتاج، فى أثناء تناول الطعام قلت لهم، لماذا ضربتم أثنين حتى الموت، نظروا إلىَّ جميعا نافين ذلك تماما، قلت لهم: إن هذا المشهد منشور على «اليوتيوب»، وتلقيت الإجابة المعتادة، «دى متفبركة». ميليشيات الإسلاميين جذبنى مشهد غريب الشكل، لو رأيته على موقع «اليوتيوب» لأعتقدت على الفور أنه لجماعة حربية تؤدى التدريبات، حيث مجموعة من الشباب يرتدون «خوذا» بيضاء مكتوبا عليها «مشروع شهيد» يسيرون فى طابور منتظم وأمامهم شخص يؤدى دور القائد، ويرددون «الله أكبر»، استوقفتهم واقتربت من قائدهم سألته: «إنتوا مين؟» فأجابنى إنهم المجموعة المسئولة عن تأمين الميدان. انتقدت هيئتهم وقلت له أنكم تعملون على بث الرعب فى قلب أى شخص يدخل الميدان للمرة الأولى، ومن الممكن أن يتم تصويركم على أنكم «إرهابيون»، فقال لى «إننا نقوم بترديد هذه الهتافات حتى يشعر المعتصمون والمعتصمات بالأمان، لأننا نحمى أنفسنا دون مساعدة الجيش أو الشرطة، ولا نملك أى أسلحة سوى «الشوم»، حتى نتمكن من مواجهة أى بلطجة، وأكد لى أنه حدث بالفعل أنهم أمسكوا ببلطجى، وأعطوه «الطريحة» فى إشارة إلى العلقة الساخنة. من بينهم وجدت شابا صغيرا طلبت الحديث معه، قال لى إنه فى الصف الثانى الثانوى، فقلت له: «إيه اللى جايبك هنا.. إنت لسه صغير»، فقال إنه من دمياط ووالده ينتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين وجاء كشاب للمساعدة فى تأمين الميدان، حيث إن مدة النوبة هى 6 ساعات يوميا، والسؤال: على أى أساس أن يشارك شاب عمره 16 عاما فى تأمين الميدان؟ لكن فى الوقت نفسه إن كان هناك طفل عمره 7 سنوات يوجد فى ميدان التحرير سيتم عرض صورته على أنه معتصم صغير أراد أن يشارك من أجل الحرية! داخل المستشفى الميدانى كانت صلاة التراويح قد انتهت، واستعد الجميع للخروج فى مسيرة تتجه إلى قصر الاتحادية للمطالبة بعودة مرسى، فكان على المسئول عن المنصة أن يحفز الناس للخروج، حيث إن الشهادة هى المطالب الأساسى لمعتصمى رابعة العدوية، فبدأ فى الدعاء والجميع يردد خلفه: «اللهم إننا مرابطون لمواجهة الظالمين الفاسدين سافكى الدماء.. اللهم إننا وهبنا أنفسنا وأهلنا وأموالنا فى سبيل الشهادة فاكتبها لنا»، ثم خرجت المسيرة فى اتجاه ميدان الساعة. بصعوبة بالغة وصلت إلى المستشفى الميدانى، وعندما اقتربت من البوابة منعنى مسئول الأمن من الدخول، فقلت له إننى صحفى، فطالبنى بالاستئذان من مدير المستشفى د. هشام، وما إن ذهبت إلى الدكتور هشام وقلت له «أنا صحفى من الأهرام»، قال لى «أنتم من إمتى بتنشروا حقايق.. عموما ادخل شوف بنفسك». شكرته، ثم دخلت إلى المستشفى الميدانى، مكان نظيف جدا ومرتب للغاية وبه مجموعة من الأطباء والطبيبات، وجدت أغلب الحالات الموجودة إما اختناق أو كدمات من الزحام، ثم سألت د. هشام: هل هناك حالات أمراض جلدية؟ نفى ذلك تماما مؤكدا أنها ادعاءات، ثم سألته من أين يتم تمويل هذا المستشفى؟، فقال كلها بالمجهودات الذاتية، ونحن لدينا مجموعة كبيرة من الأطباء والجراحين على أعلى مستوى، لأن مهنة الطب مهنة إنسانية فى المقام الأول ولا يرضى أحدا أن تتعرض الناس للضرب بالرصاص الحى أو الخرطوش، والكل رافض ما حدث، ثم قال لى «معانا دكتور جه مخصوص من إنجلترا علشان يشاركنا هنا»، واستدعاه وعرفه بى. رفض الطبيب المصرى الذى يعمل فى إنجلترا ذكر اسمه، لكن كالعادة ظهرت عليه علامات الدهشة بمجرد معرفته أننى من الأهرام، وقال لى «هاتنشر اللى هاقوله» أكدت له طبعا، فقال تعالى معايا، ثم اصطحبنى وسط زحام شديد جدا إلى مستشفى رابعة العدوية طالبا أن أشاهد بنفسى حالة مصاب بطلق نارى فى الرأس والصدر، وشرح لى أن هذه الحالة تعرضت للإصابة فى مركز «بروكا» بالمخ، وهو المركز المسئول عن الكلام، قلت له الحمد لله أنه لايزال على قيد الحياة.. قال لى «ده عايش ميت». فى المستشفى قمنا بالاتصال بالطبيب المسئول عن «الرعاية المركزة» والذى سمح لنا بالدخول إلا أن مدير الأمن رفض بشدة بعد الاتصال برئيس مجلس إدارة المستشفى، فحدثت مشادة كلامية بينه وبين الطبيب المرافق لى، حيث قال له «إنكم تريدون طمس الحقائق». عدنا إلى المستشفى، سألت الطبيب، هل أنت متأكد أنها رصاصات حية، قال لى «طبعا ورصاص ميرى وخرطوش كمان»، وأكد لى أن هناك مركز توثيق بالمستشفى الميدانى وبه كل التقارير الطبية التى تؤكد ذلك، وبأى حق يتم التعامل مع هؤلاء المتظاهرين بالرصاص الحى. بين الحرس الجمهورى والاتحادية نفس هذا السؤال سأله لى أحد المعتصمين، وعندما أجبته أن الاعتداء على أى منشأة عسكرية من الضرورى مواجهته بحسم حتى لو وصل الأمر إلى إطلاق الرصاص على المتظاهرين، رد لى قائلا: ولماذا لم يتم التعامل مع متظاهرى الاتحادية بنفس الطريقة؟ أليست هى الأخرى منشأة عسكرية؟ ووصل الأمر أن قام المتظاهرون باعتلاء السور ولم يمسهم أى أحد بسوء، حتى لو حدثت معركة بين الإخوان المدافعين عن مرسى وبين معارضيه، أين دور القوات الموجودة بقصر الاتحادية والمسئولة عن تأمينه؟ لم يتعرض أى منهم بسوء، أما مؤيدو مرسى يركلون بالأحذية. عاد الطبيب إلى رواياته، حيث قال لى أحكى لك عن حالات أخرى كثيرة، هناك سيدة تعمل طبيبة بيطرية أصيبت بطلق خرطوش فى ظهرها، من قبل قوات الأمن المركزى، حيث إنه عندما اقتربت قوات الأمن منهم انبطحوا على الأرض تلافيا للرصاصات، لكن أحد أفراد الأمن اقترب منها كثيرا وأطلق عليها الخرطوش الذى انتشر فى ظهرها. وشاب آخر جاء إلى المستشفى مصاب بردود وكدمات روى للطبيب أنه اختبأ مع أصدقائه فى أحد العمارات القريبة من دار الحرس الجمهورى عقب الاشتباكات، فما كان من أفراد الجيش إلا أنهم فتشوا فى العمارات كلها حتى أمسكوا بهم وأنزلوهم فى الشارع وأبرحوهم ضربا، حتى أصابوه بكدمات بالغة. سألته وما دليلك على ذلك؟.. قال: إن كل هذا مثبت فى التقارير الطبية، ومسئولوا التوثيق بالمستشفى معهم أسماء جميع المصابين ورواياتهم.