بعد احد عشر عاما على اختطاف الاسير القائد مروان البرغوثي، وبعد مائة يوم من التحقيق القاسي معه، وألف يوم في زنازين العزل الانفرادي، وبعد أن خابت تمنيات شارون بأن يلقى مروان رمادا في جرة، وبعد أن احتفل الجنرال موفاز باعتقال مروان، واعتبر ذلك أثمن هدية لإسرائيل في ما يسمى يوم استقلالها الذي هو يوم نكبتنا، يفتح مروان البرغوثي الصندوق الأسود لدولة إسرائيل ، ويقرأ على العالمين كتاب الاحتلال الأطول في التاريخ المعاصر. في داخل الصندوق وجد مروان حقائق مخيفة ومدهشة عن دولة تحتل شعبا آخر، اعتقلت ما يقارب المليون من سكانه منذ بداية الاحتلال، وصفها رئيس الكنيست الإسرائيلي الأسبق إبراهام بورغ بأنها دولة تتجه نحو الانتحار الأخلاقي والقيمي، وأنها أصبحت دولة محرقة، لا تعرف أن تبقى موجودة دون حروب ونزاعات، إنها دولة معسكرات مصابة بالتوتر والهستيريا. ووجد مروان في الصندوق ما يثير المفارقة بين ما يشهده الواقع من ثورة لحقوق الإنسان ، وبين ما يتنامى ويتصاعد في إسرائيل من موجات التطرف الفكري والثقافي والعنصري، كدعوة كبار الحاخامين في إسرائيل إلى إقامة معسكرات إبادة للفلسطينيين، ومن تصريحات لكبار الضباط وأعضاء الكنيست والإعلاميين إلى خنق الأسرى بالغاز وإبادتهم، وتركهم في السجون حتى يموتوا أو يتعفنوا ، ودون أية حساسية لدى المدعي العسكري الإسرائيلي السابق ( أفيحاي مندلبتي) الذي اعتبر أن ارتكاب مجزرة يذهب ضحيتها عشرون طفلا أمر مقبول قانونيا في إسرائيل. قرأ مروان البرغوثي ، ذلك الكتاب الذي وجده داخل الصندوق الأسود، ويحمل عنوان "عقيدة الملك" للكاتب الإسرائيلي يوسف اليتسور، يدعو فيه إلى إعطاء الشرعية الدينية لقتل الفلسطينيين بعد أن يشبههم بالأفاعي والحيوانات. وسمع مروان صوت "آسا كاشير" الفيلسوف والمؤرخ الأكبر للمنظومة القيمية والسلوكية للجيش الإسرائيلي، وهو يحلل استخدام المدنيين الفلسطينيين دروعا بشرية خلال الاعتقالات والمواجهات، كما جرى مؤخرا مع الطفل احمد ربيع 15 سنة من سكان بلدة أبو ديس. وعندما قرأ مروان البرغوثي فصولا من كتب التربية والتعليم في إسرائيل، وجد أن مفاهيم السلام والعدالة غائبة عن المدرسة في إسرائيل، مناهج مفعمة بالعمى الإنساني وبالعسكرة والتطرف، يتعلمها تلاميذ سوف يكبرون ويصيرون جنودا أو سجانين حاقدين. من داخل الصندوق الأسود لدولة إسرائيل يشم مروان البرغوثي رائحة قنابل الغاز السام وهي تلقى على المعتقلين المحشورين ، ويرى حفلات الضرب والاعتداءات والاهانات التي تمارس بحقهم، ويسمع صرخات أسرى معزولين ومعاقبين، ويشاهد نيرانا تشتعل في خيام النقب ومجدو، وجثة أسير تحترق اسمه محمد الأشقر. مشاهد تبث مباشرة عبر القنوات الفضائية الإسرائيلية عن مجندات وجنود يرقصون ويستمتعون ويحتفلون أمام أسرى مكبلين ومهانين، وطفلا اسمه احمد جوابرة ابن الرابعة عشرة من العمر يعتقله الجنود بعد منتصف الليل، ويفرضون عليه إقامة جبرية و الحرمان من المدرسة. انتهاكات بالصورة والصوت يعترفون بها، وكأنها أمور طبيعية، وكأن الأسرى غنائم صيد وأداة للتعذيب والتسلية وليسوا من بني البشر ، وعندها يقول مروان: لا يستغرب أحد من صرخة الكاتب الإسرائيلي سامي ميخائيل عندما قال: ليس من المبالغة تتويج إسرائيل بلقب الدولة الأكثر عنصرية في العالم المتقدم . يفتح مروان البرغوثي بوابات أقسام التحقيق الإسرائيلي، فيكتشف أن التعذيب والمعاملة اللاإنسانية تحظى بغطاء قانوني، ويحظى المحققون بحصانة قانونية مطلقة، ولم يجد مروان أي محقق إسرائيلي واحد قدم إلى محاكمة أو صدر بحقه لائحة اتهام. الحقائق في صندوق دولة إسرائيل الأسود تشير إلى اعتقال ما يقارب 8000 طفل فلسطيني منذ عام 2000، صراخ وفزع وتنكيل وتعذيب وحشي،أطفال تقصف طفولتهم مبكرا مثخنين بالصدمات ، لم تنقذهم الاتفاقيات الدولية ولا صغر أعمارهم المسحوقة قبل الأوان. لقد صدر 23 ألف أمر اعتقال إداري بحق مواطنين فلسطينيين منذ عام 2000، وصار الاعتقال الإداري سيفا مسلطا على رقاب الأسرى، وسياسة روتينية وبديل سهل لممارسة الاعتقال وتجديده، دون الحاجة إلى أي تهمة أو دلائل قانونية، وقد تضخمت إسرائيل من خلال قمع الفلسطينيين إلى درجة أن مروان البرغوثي يحسد ذلك الإسرائيلي الذي استطاع أن يهرب من إسرائيل بحثا عن حياة في دولة طبيعية. يفتح مروان البرغوثي ملف المحاكم والقضاء الإسرائيلي، فيجد أنها تفوح برائحة التمييز والعنصرية ، أحكام تافهة وشكلية صدرت بحق جنود ومستوطنين قتلوا واعتدوا على فلسطينيين، بينما أحكام قاسية ورادعة صدرت على أسرى فلسطينيين، ولا يزال وزير العدل الإسرائيلي يصدر النصائح عن كيفية تقديم طلبات إصدار عفو عن يهود قتلوا فلسطينيين. يقول مروان ليس معقولا أن يخوض سامر العيساوي لمدة تسعة شهور إضرابا مفتوحا عن الطعام حتى اقترب من الموت، ليصدق العالم بعدها أن اعتقاله باطل وغير قانوني ، وأن دولة إسرائيل اصطنعت له أي تهمة لإرضاء جنونها أمام إصراره على نيل الحرية والكرامة. وليس مقبولا أن يبقى الأسرى في ثلاجة موتى تسمى عيادة سجن الرملة، يسقطون واحدا واحدا بعد أن طفحت الأمراض في أجسامهم وتساقطت أعضاؤهم، وتشبعوا بأدوية المسكنات كي يموتوا بهدوء داخل أقفاص آلامهم وأوجاعهم بلا صراخ أو شهيق. ولم يعد مستوعبا أن يقضي أسرى أكثر من ربع قرن في السجون، مظلومين سياسيا وإنسانيا ، أغلقت عليهم الأبواب كما هي الاتفاقيات، ولا يتقدم أحد إلا بمشروع سلام اقتصادي لتسمين وتجميل الاحتلال وإطالة عمره، كما هو المؤبد في زمن السجون. بعد احد عشر عاما على اعتقال مروان البرغوثي، وبعد 187 قرارا من الأممالمتحدة تدين إسرائيل بشأن معاملتها للأسرى، وبعد أن أصبحت فلسطين دولة مراقب في الأممالمتحدة يفتح مروان الصندوق الأسود لدولة إسرائيل ويعلن من داخل سجن هداريم، ومن غرفة رقم 28: أن إسرائيل، ليست اسما لدولة، بل اسم وحدة اغتيالات لكل ما هو إنساني ووطني في العالم.