رفض بعض المثقفين لما سمى بثورات الربيع العربى، ونحن هنا نرصد الاستثناء، لأن القاعدة العامة تؤكد أن جميع المثقفين العرب، ونظراءهم فى العالم كله، وقفوا وأيدوا وناصروا، ثورات الشباب، خصوصا فى المرحلة الأولى، بعد ثورة تونس، وتاليتها مصر، كانت الحماسة ملتهبة، زعم المثقفون أنهم من بشروا بالثورة، وادعى بعضهم أن أعماله حملت جنينها ودعت إليها، وأنه ثورى فى كل ما كتب، وليس مدهشا بعد ذلك، أن هؤلاء أنفسهم، يشككون الآن فى كل ما جرى، ويترحمون على زمن فات، ودنيا مضت، الاستثناء الذى رفض هذه الثورات جاء من مثقفين من خارج البلدان التى قامت فيها هذه الثورات، وتحديدا من المثقف والشاعر العراقى المقيم فى لندن سعدى يوسف لماذا رفضها البعض وأيدها آخرون؟ منذ البداية رأى سعدى فيما يجرى «مؤامرة» غربية، وكتب «أى ربيع عربى» هاجمه البعض، حتى إن الشاعر المصرى عبدالمنعم رمضان قال: يبدو أن الثورة لم تكن حمراء، فلم تعجب سعدى، يعنى عبدالمنعم بالحمراء هنا «الشيوعية». ومن سعدى يوسف إلى ما يجرى فى سوريا، وفيه تجلت الظاهرة بشكل أعمق، حيث رفض الفنان السورى دريد لحام الثورة، وقوبل بهجوم عنيف وشرس، ولم يتوقف أحد أمام مفارقة دريد المفجعة، فهو أكثر من حارب الاستبداد فى مسرحياته وأفلامه، وبعضها شارك هو بنفسه فى كتابته، وأكثر من نعى على بلادنا وقوعها فى فخ الديكتاتورية، وأن شعاراتها الوحدوية جوفاء، وكلنا نتذكر مسرحية «غوار»، و«كاسك يا وطن» مع الراحل سعدالله ونوس، وفيلم «الحدود»..ومثله كان موقف الشاعر الكبير أدونيس، والشاعر نزيه أبوعفش، حيث لم تشهد ثورة انقساما ما بين المثقفين والفنانين، مثلما شهدت الثورة السورية، أدونيس لخص رأيه بعد صعود التيارات الإسلامية فى تونس ومصر وليبيا، فى حوار مع «فرانس24»، قائلا: إن ما يحتاجه العالم العربى اليوم ليس حراكا دينيا كما هو واقع اليوم، لأن الحراك الدينى موجود منذ 14 قرنا، بل يحتاج قطيعة معرفية وسياسية مع الحراك الدينى، فلا يمكن أن تضع قانونا واحدا صالحا لجميع المواطنين داخل البلد الواحد إذا لم تفصل الدين عن الدولة..وحول مخاطر تقسيم الدول التى شهدت ثورات، رأى أدونيس: أن وضع العرب اليوم هو أشبه بالكرة بين أقدام العالم، وفى مثل هذا الوضع كل شىء ممكن..اللافت للنظر الآن أن أغلب مثقفى العالم العربى صاروا يرفضون الواقع الذى أنتجته الثورات، وهو واقع تهيمن عليه قوى غير ثورية فى الأساس، وعندما سألت سعدى يوسف عن ارتداء المواقف المهاجمة لرأيه، وكيف أنها صارت أقرب إلى ما قاله منذ زمن، وهل فعلوا ذلك خوفا من التيارات الدينية المهيمنة أم بعد انكشاف الدور الأمريكى فى ثورات الربيع العربى، وهو ما كان حذر منه سابقا؟ قال: «أولا أتشرف بما تقوله عنى، والحق أننى لم أقل ما قلت حول الثورة المضادة للمدنية من موقع استباق، كنت مطلعا على آليات الجريمة بطرائقى الخاصة، بحثا» الشاعر العراقى شاكر لعيبى فيقول: لا أظن أن مثقفاً صاحى الضمير يمكن أن يقف على الضد من “ثورات الربيع" العربى، لا أدونيس ولا سعدى يوسف على سبيل المثال. بعض المثقفين العرب كان يمتلك بالأحرى تحليلاً للمعطيات العامة يقود إلى الريبة من بعض ما يجرى، خصوصا مع تدخل عناصر خارجية وارتفاع رايات الإسلام السياسى، السلفى وأشباهه التى أرادت منذ البدء حرف المسار النبيل المُطالِب بالحرية والكرامة والعدل. لم يصدر هذا المسار عن تأمل عميق بالمعطيات فقط، بل أيضاً عن شحنات من الغضب والتوتر اللذين كُبتا طويلاً. عدا المثالين التونسى والمصرى اللذين خرجا من رحم الشارع، بطهارةٍ ما، كيف تريد لهذا البعض من المثقفين أن يؤيد تدخلات المال والميديا والسلاح، القادمة من “الخارج"، هم الذين وقفوا بكامل ثقلهم ضد الاحتلال الأمريكى للعراق مثلاً فى حالة سعدى يوسف؟ لقد وقفوا على الضد من تزوير وحرف مسار “الربيع" – وهو ما ثبت صدقه، وها نحن نرى نتائجه- أو ارتابوا فى لحظة ما – وأنا من بين المرتابين- من دوافع بعض الأطراف الرجعية - إذا كان للكلمة من معنى بعد- فى تأييدها لمفهوم “الثورة" التى هى النقيض الكامل لمفاهيم القبيلة والتوارث السلاليّ للسلطة والحريات الملجومة بقوة رأس المال. .عندما أعلنتُ ارتيابى - يقول لعيبى - ذات مرة من النكهة الطائفية فى المسار السوريّ الذى أيّدتُ انتفاضته دون تحفظ، ولا أزال أؤيد مطالبه الجوهرية، جوبهت بتعليقات ساخرة مريرة من أصدقاء أعزاء لى.. ويوضح أنه إذا كان صحيحاً أن المثقف ليس نبياً لكنه يستشرف الآتى، فعلينا تذكير من ينسى الوقائع بضرورة الخروج باستنتاجات دقيقة منها. فى شهر مارس الماضى ثمة مقالتان تستوقفان المرء: عباس بيضون فى السفير “مصر الثورة المغدورة" وخليل النعيمى فى القدس العربى “حلم الثورة"، وكلاهما صديقان عزيزان ومبدعان فى حقليهما. تمنيت فى تعليق لى على الفيس بوك ألا يقول بيضون عن سوريا غداً ما يقوله اليوم عن مصر: “ما يحدث الآن أن الثورة فى خطر، الإخوان المسلمون يريدون أن يجعلوا الدولة ومؤسساتها وعسكريتها نهباً لهم، الإخوان. يرى لعيبى أن مهمة المثقف أيضاً هى الاستشراف ومعرفة ما قد سيحدث تقريباً وفق المعطيات. بعض المعطيات لا تبشِّر. أنا أقول موقفي: النظام السورى فاشيّ ودمويّ و"مشعل حرائق" كما يقول صبحى حديدى، لكن ما يحدث باسم الثورة صار حرباً أهلية، تسعى الجهات الإقليمية عبرها إلى تحطيم سوريا كلها وعينها على مكان آخر، بينما جزء مهمّ من العناصر الفاعلة على الأرض فى سوريا أشد خطورة بكثير من غيرهم فى مصر. ويشير إلى أن بعض المثقفين العرب يصمتون أو لا يؤيدون الواقع الحالى لثورات الربيع العربى، لأنهم لا يريدون أن يسقطوا فى الانتقائية التلفيقية: هنا جيد، هناك سىء. هذه الانتقائية ليست من الأخلاق الرفيعة بشيء، ولا من بديهيات الثقافة. إذ من الصعب أن نفهم صمت جُلّ المثقفين العرب (وها أنا أختلف الآن مع سعدى يوسف نفسه) عما يجرى من قتل على يد القاعدة وغيرها لأبناء العراق. فى غضون شهر واحد فقط قُتل المئات، ولم نسمع صوتاً مبحوحاً خجولاً. هل قتل أبناء طائفة معينة أو دين مختلف مُباح وأخلاقيّ؟. وهل التذكير بذلك سيكون مدعاة لاتهامنا بالطائفية نحن الذين ندفع الثمن الغالى لأننا نقف ضد جميع النزعات الطائفية على الإطلاق؟ خبر قتلهم لا يأتى إلا فى الدرجة العاشرة فى نشرات الجزيرة والعربية. يريد البعض من المثقفين العرب غض الطرف عن فهم التالي: ثمة أطراف فى المنطقة، ضمن مشروع أوسع، تقاتل إيران فى العراق وفى سوريا بثمن تفتيت منهجيّ لجميع البنى على الإطلاق، وتقتيل الكائنات البشرية لأنها ليست من المذهب نفسه حتى لو أنها كانت تقف على مسافة جذرية من المذاهب. فى ذلك شيء خطير ولا سابقة له فى الثقافة العربية. إذا ذكَّرتَ بذلك فستتهم بأنك من مؤيدى إيران. لسنا من مؤيديها على الإطلاق، ولكننا نرى، ربما، ما لا يريدون رؤيته..ينطبق الأمر على المثقفين المصريين قبل غيرهم، حيث أدركوا ما كان صعباً إدراكه فى خضم الحماسة والتوتر والآمال الكبرى..أما الروائى السودانى أمير تاج السر، فيؤكد أن كل واحد من المثقفين الذين لم يتفاعلوا مع ثورات الربيع العربى، أو هاجموها، له قناعاته التى يتكئ عليها فى ذلك الرفض، هناك من كان يرتبط بعلاقات مع أنظمة ما، وساءه أن تنهار، هناك من يحمل نفس الأفكار التى تحكم بها بعض الأنظمة، وبالتالى سقوطها يتعارض مع قناعاته. وهناك من فلسفها بأنها أسهمت فى تردى الأمور فى بلاده. وبالنسبة لمصر، لم يحس المثقفون وقطاعات كبيرة من الناس العاديين، بأنهم أنجزوا شيئا بثورتهم، فما زال الحال على حالها، ورموز النظام السابق، لم تجر محاسبتها على ما اقترفت. والنظام الديمقراطى الجديد، لم يرض الكثيرين. إنه نوع من الإحباط الذى لم يكن أحد يتكهن به ساعة الحماسة لإيقاد الثورة. رأيى الشخصى - الكلام لتاج السر - أن هذه الثورات التى كتبنا كلنا مؤيديين لها، لم تفعل شيئا يرضى الطموح حتى الآن، على العكس، توقفت التنمية، وانعدم الأمن والأمان، وبات المواطن يخشى على حياته وبلده، أكثر من أى وقت مضى. ربما كان هذا الحكم مبكرا، وهناك من يقول إن الثورات تحتاج لزمن حتى تأتى بنتائجها، والديمقراطية تحتاج أيضا إلى زمن حتى يستوعبها المواطن. أما سلام إبراهيم، الروائى العراقى المقيم فى السويد له رواية بعنوان «حياة ثقيلة» يرصد فيها مآلات ثورات ما سمى بالربيع العربى، يقول: كنت أتابع بقلق مجريات ما سمى بالربيع العربى وثوراته، ودخلت فى حوارات متواصلة مع أصدقائى فى القاهرة، وكنت غير متفائل، ويعود السبب إلى طبيعة القوى المحركة للثورات فى زمن أفول المد اليسارى الاشتراكى، وضعف القوى العلمانية تنظيما وفكرا، يضاف إلى حجم التخلف العام لدى غالبية الشعوب العربية، حيث ساد الجهل والأمية، وازدهرت الخرافة والمفاهيم الغيبية التى حلت بديلا عن أحلام المساواة والعدالة، والقوة الوحيدة المنظمة فى الواقع الجديد هى التيارات الإسلامية، وهذا ما حدث لدينا فى وقت مبكر فى العراق، عقب الاحتلال الأمريكى، ومجئ سلطات دينية طائفية كانت منظمة تسلمت السطة بانتخابات تبدو نزيهة، لكن أمريكا تعرف جيدا أن جمهور الناخبين سيأتى بسلطات دينية عملت على تعويق الحياة بشكل عام فى كل النواحى فى العراق الذى يعد من أغنى بلدان العالم من ناحية الثروات: نفط، أراض زراعية، تنوع مناخى، أنهار، لكن السلطات الدينية عملت على تكريس التخلف و الجهل والرشوة، وأشاعت الفساد، كل ذلك باسم الدين.. لكل ذلك كنت متوجسا من مآل الثورة فى مصر، وبقية البلدان، وفى تقديرى أن أمريكا تريد لهذه القوى أن تحكم، وتبين لاحقا أن هنالك تنسيقا كاملا ودعما خفيا لها.