بدأت فى الكتابة حين وجدت أن لدى شيئا أقوله. ومع تقدّمى فى العمر، خرجت من محيطى وذاتيتى فى الكتابة حين تنبهت لوجود الآخر، فالحياة ليست أنا وبيت العائلة.. الحياة هو.. هي.. وهم. لم أنتبه إلى وجود الآخر إلا بعدما وجدتنى متورطا بأسئلة لست أملك لها إجابات. اكتشفت أن الكتب لا تجيب عن الأسئلة، ولا تقدم لنا الحلول كما أوهمنى بابا سنفور وساحرة سنو وايت وطائر البوم الحكيم، إنما الكتب تثير المزيد من الأسئلة، وتحفزّ العقل حد الإرهاق للبحث عن تفسير أو يقين. بدأت فى الكتابة إلى الآخر حين عجزت عن إيجاد تفسير لأشياء كثيرة، لربما وجدت لديه الحلول، أو.. لألقى عليه شيئا من حملى الثقيل وحسب، أو لأن لديّ ما أقوله له. تطوّر دافع الكتابة لدي، أو تغير، من الكتابة لأن لدى ما أقوله، وللبحث عن إجابات أرهقنى الوصول إليها دون جدوى، إلى الكتابة لأن هناك من يريد أن يقول، ولكنه لا يملك ما أملك من أدوات تعبيرية، لذا ارتديته.. تقمصته.. أصبحت أنادى بصوته بعدما آمنت بعدالة قضيته. فى الكتابة كنت أواجهنى بي، بشتاتى وتناقضاتي، أتعرّف عليّ أكثر، أصفعني، أُفهمنى وأفهمني، أرى بوضوح، ثم يتغيّر شىء ما لا أعرفه، ولكننى أتخفف من شىء.. شىء لست أدريه. لذا أصبحت أتوق لأن أكرر تجربتى على المتلقي، يقرأ نفسه فى أوراقي، أواجهه بتناقضاته، أعرّفه إليه إكثر، لربما أساعده على رؤية الأشياء بوضوح، ولربما استطعنا، هو وأنا، أن نغيّر بعد أن نتغيّر. كنت أتحدث عن الكيفية التى أحالتنى كاتبا عبر المرور بالبوابات الثلاث. كيف أصبحت كاتبا. بقى السؤال الأهم، وهو لماذا أصبحت كاتبا؟ أنا أكتب بحثا عن الحرية، والحرية بمفهومى هى أن أكون أنا، وأنا.. بقدر ما أستطيع.. أحاول أن أكون. هى ليست أحجية، وإن بدت بهذه الصورة. حياتنا مجموعة لا نهائية من القيود. قيود الأعراف والقوانين والمجاملات والتخفى وراء أقنعة فرضها الواقع علينا وقبلناها حتى كدنا ننسى ملامحنا. إذن.. أنا أكتب بحثا عن حريتي. بحثا عني، لعلنى أجدنى ذات يوم وإن كان ذلك، مبدئيا، على الورق. ولأننى لست بمعزل عن الآخر، فحريته جزء أصيل من حريتي، أبحث عنها، من أجله ومن أجلي. وهنا أستشهد فى تجربتى الروائية الأخيرة “ساق البامبو"، حكاية المنبوذ هوزيه أو عيسى، تحررت خلالها من أشياء كثيرة، حين أصبحت هوزيه ميندوزا.. عيسى الطاروف.. أو السنعوسى.. أتلقى ردود الأفعال قبولا وتأييدا واستحسانا أو رفضا قاطعا. أستمع إلى البعض يتساءل: حكاية من هذه؟ حكاية هوزيه أم سعود.. هل قام بتأليفها حقا أم اكتفى بترجمتها.. وأنا أمارس صمتى في.. صمت، أتابع فضولهم فى اكتشاف سرّى والبحث عن حقيقةٍ فى صفحات الرواية، وإذ بهم لا يخرجون منها سوى بحقائق مؤلمة، تواجههم بهم، وهذا هو هدفى. أقرأ اليوم.. أشاهد وأسمع الحديث عن “ساق البامبو" سلبا أو إيجابا.. لا ألتفت إلى شىء سوى أن الناس تردد حكاية هوزيه ميندوزا، أو عيسى راشد الطاروف. من شهادة قدمها الكاتب فى ندوة مجلة العربى (الخليج العربى والجزيرة، نصف قرن من النهضة الثقافية).