لا تكرروا خطأ مبارك القاتل عندما تعامل مع الشعب على أنه جثة هامدة أو قطيع من الناس ينصاعون إلى كل قرار دون أى رد فعل أو احتجاج على أى فساد أو ظلم.. وعلى أنهم عبء ثقيل لا يتعاونون مع أى إصلاح أو تطور إلى الأمام. كان الرئيس المخلوع يتحدث كثيرا فى كل خطاباته وبياناته إلى جموع المصريين فى مختلف المناسبات، بأنه ينحاز إلى الشعب وإلى الفقراء منهم أو محدودى الدخل، وبأنه مؤمن بقدرات هذا الشعب العظيم. ولكن سياساته كانت على العكس من ذلك تماما، بما يؤكد أنه لم يضع اعتبارا لهذا الشعب، أو بالأحرى تعامل معه على أنه مجرد جموع من الناس بلا كرامة، معدومى الإرادة، عاجزين عن التقدم إلى الأمام، وعليه فإنه لا يتورع، هو ومن حوله ممن كان بيدهم الأمر، من أن يسوق هذا "القطيع" بسلاسة وهدوء وكيفما يريد دون أى حساب لرد فعلهم، لأنهم فى تقديره لن يكون لهم أى رد فعل، وإذا كان فإن عصا الأمن جاهزة لردع كل من يعترض أو يعوق مسيرته. ما لم يفهمه الرئيس المخلوع وحاشيته أن المصريين قد لا يهتمون كثيرا بشئون السياسة، وقد يحجمون عن المشاركة فى الأنشطة السياسية المختلفة، لكنهم لا يقبلون مطلقا أن تهان كرامتهم إلى هذ االحد بأن يساقوا كالنعام حيثما يريد.. كان أكثر الرؤساء فى تاريخ مصر القريب تغييرا للحكومات والقيادات فى مجالات العمل الوطنى الأخرى، لكنها كانت تغييرات محدودة وجزئية، والحجة التى كان يرددها دائما للمقربين إليه هى أنه لا يجد كفاءات، وأنه يعانى من البحث عنها لدرجة أنه لم يكن يجد سفيرا مناسبا مثلا لهذا البلد الأجنبى أو ذاك.. بالطبع كان المصريون يحجمون عن السياسة نظرا لعدم الثقة فى هذا النظام .. وبالطبع أيضا كانت الكفاءات - لاتزال - موجودة، حيث لا يصدق أى عاقل أن هذا البلد العريق ذو الخمسة والثمانين مليونا ليس بينه من يصلح أن يكون سفيرا ولا نقول وزيرا أو رئيس وزراء.. ولكن ما رسخ فى أذهانه هو عدم الإيمان بقدرات هذا الشعب وأبنائه المخلصين، لأنه - فى تقديره وحساباته - شعب خامل، يطلب ولا يعمل، يتكلم كثيرا ولا يفعل شيئا، وبناء عليه فإنه لا يستحق أن يرفع رأسه ويناقش ويعارض ويتصدى لأى انحراف وفساد أو ظلم، ولن يقوى يوما على الاحتجاج أو تحويل الاحتجاج إلى ثورة.. لقد أغلق الأبواب على نفسه وحاشيته ورفضوا أن يستمعوا.. احتكروا الحكمة و القرار واحتقروا الرأى الآخر، بل والنصيحة حتى ممن كانوا يرضون عنهم، ونظروا لكل مظاهر الاحتقان التى عاشتها البلاد فى السنوات الأخيرة من الحكم السابق على أنها "تسلية" من الشعب. ألا تتذكرون كلمات مبارك فى آخر بياناته أمام مجلس الشعب المنحل ردا على أصوات من القاعة تحدثت عن غضب المعارضين من الانتخابات المزورة التى جاءت بهم إلى البرلمان.. يومها رد قائلا: دعهم يتسلون! هذه النظرة التى تعاملت مع الشعب على أنهم جموع "وضيعة" كان يقابلها شعور شعبى متصاعد بدءا من أبسط الناس إلى أعلاهم وأكثرهم دراية بالأحوال السياسية ورغبة فى التغيير، بأن الشرعية لم تعد قائمة لهذا النظام.. لقد فقد الثقة والاحترام من الشعب، لأنه تعامل مع الشعب باحتقار .. الأمن كان هو قمة جبل الثلج التى بلورت هذه المفارقة المهمة، حيث كانت المسافة شاسعة بين الشعب و النظام السابق، فمن خلاله جرى تعميق الفجوة وانعدام الثقة تأكيدا لنظرية النظام بأن الشعب لا يملك مقدراته وغير مؤهل لأن يحكم نفسه.. المشهد القديم جرى تكراره فى الأيام الأخيرة التى فجرت ما أصبح يعرف بانتفاضة نوفمبر أو الموجة الثانية للثورة مع بعض الاختلاف.. لقد انتفض الشعب مرة أخرى مكررا مشهد 25 يناير، لأنه استشعر أن القصة أعيدت روايتها مرة أخرى، وهى التعامل معه على أنه لن يغضب وسيقبل بكل ما يطرح عليه دون مناقشة، والأخطر أنه سيجرى قمعه إذا احتج.. تجددت الهواجس التى كان من المفترض أنها تلاشت فى أعقاب 25 يناير، عندما تدخلت عصا الأمن لتفرض الطاعة، وتجددت معها مرارة سنوات طويلة من التعامل مع الناس على أنهم قطيع وجثث هامدة. للحق لم يكن هذا التصرف الأمنى متسقا مع شواهد عديدة جاءت من المجلس العسكرى ومن الحكومة السابقة تقول، إن السلطة الحاكمة لا تريد أن تكرر الماضى وإنها تعمل بعقلية مختلفة، أو بالأحرى أنها فهمت هذا الشعب وعزمت على أن تترجم هذا الفهم إلى العمل.. ولكن خطأ واحدا بهذا الشكل كان كفيلا بإعادة الأوضاع إلى الوراء، وكان دليلا أيضا على أن هذا الجرح العميق الذى حدث فى جسد الشعب لم يجر التعامل معه باهتمام شديد وبأولوية فى جدول أعمال المرحلة الانتقالية. ل ا تكفى هندسة المرحلة بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ما تضمنته من خطوات) إجراء الانتخابات ووضع الدستور.. إلخ)، فالجرح لم يكن يحتاج إلى طبيب فى حقيقة الأمر، وإنما إلى سياسى قدير يستوعب مشاعر الغضب ويكسب الثقة، يجعل الناس تتأكد بأنه لا عودة إلى الوراء لإهانة الشعب والتعامل معه على أنه قطيع من البشر ليس له أى قدرة على رد الفعل .. وإلى أن تأتى الرسائل تباعا إلى الشعب بأن السلطة الحاكمة تفهم حقاً هذا الشعب، فإن الحال ستبقى على ما هى عليه، سواء جاء الجنزورى أو البرادعى، وسواء نجحت الانتخابات البرلمانية أم فشلت.. الفهم الصحيح لهذا الشعب بقدرته على قيادة التغيير وتحقيق أهداف ثورة 25 يناير هو طريق النجاة من الغرق فى طوفان الفوضى..