تمر مصر ومعظم دول الربيع العربي بحالة غريبة من فوضى الخطاب السياسي والديني.. ولكن الأخطر منها هو فوضى الفتاوى.. وآخرها فتوى تطبيق حد الحرابة علي المعارضين من قادة جبهة الإنقاذ أو الإفتاء بقتلهم.. وهذه تشبه الفتاوى التي كان يطلقها البعض في عهد مبارك، يطالبونه فيها بتطبيق حد الحرابة علي الجماعات الإسلامية. فالمفتي موقع عن الله سبحانه فيما يفتي فيه .. وإذا كان منصب الذي يوقع عن الرؤساء والملوك منصبا خطيرا .. فكيف بمنصب الذي يوقع نيابة عن الله سبحانه .. فالفتوى مسئولية خطيرة .. وكان فقهاء السلف العظام يتهيبونها ويفرون منها .. وبعضهم يقول «لا أدري» في معظم المسائل التي تعرض عليه تهيبا ً من الفتوى بغير علم. وقد روى عن أبي ليلى قوله:»أدركت مائة وعشرين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلي هذا .. وهذا إلي هذا حتى ترجع إلي الأول. وقد صدق عمر بن الخطاب في قوله « أجرؤكم علي الفتيا.. أجرؤكم علي النار». وأخطر الفتاوى علي الإطلاق هي الفتوى في الدماء والأبضاع «أي الأعراض» والأموال .. والفتوى فيها عادة ما تحتاج إلي مجامع فقهية وبخاصة إذا ترتب علي الفتوى فتنة في المجتمع أو احتراب أهلي أو تمزق للمجتمع. ولكن البعض الآن ممن لم يتهيأ للفتوى لا يهاب الفتوى الخطيرة في الدماء.. برغم أن معظمهم لم يدرس الفقه الإسلامي ولم يتخصص فيه. فالداعية والتنظيمي والحزبي والسياسي يختلف عن المفتي .. وأستاذ اللغة والبلاغة يختلف عن المفتي .. فالإفتاء مهمة شاقة تحتاج إلي تخصص دقيق في الفقه الإسلامي أو دكتوراة علي الأقل من كلية الشريعة .. وهي الكلية الأزهرية الوحيدة المتخصصة في الفقه الإسلامي. والإفتاء يحتاج إلي تدريب طويل وتخصص عميق .. إذ أن المفتي عليه أن يقرأ النص الشرعي قراءة صحيحة .. ويقرأ الواقع قراءة صحيحة .. فإذا أخطأ المفتي قراءة النص أو قراءة الواقع أو لم يستطع إنزال هذا علي ذاك وقع الخطأ والخلط في الفتوى. والإسلام لا يعرف فتاوى القتل أو الاغتيال .. ولكن بعض القوى السياسية الآن تلجأ إلي شرعنة العنف إما بطريقة الشرعية الثورية أو بالشرعية الدينية .. وكلتاهما ستدمر البلاد وسيخلق فتنًا وشرورًا لا يعلمها إلا الله. كما أن الذي يدعو أو يفتي بقتل إنسان فإنه يلغى معنى التعددية الحزبية وفكرة المعارضة التي أقرها النظام السياسي الحالي. فالفعل السياسي يواجه بالفعل السياسي .. والفكر لا يواجه إلا بالفكر .. والرأي لا يواجه إلا بالرأي .. ولا يواجه ذلك كله بالاغتيال والتصفية أو المولوتوف. أما إذا خرج هذا الفعل السياسي عن إطار القانون فإن المنظومة القانونية تبدأ في العمل وسيف القانون بقواعده وضوابطه تعمل .. وهذه مسئولية النيابة العامة والقضاء .. والخروج على القانون في الفعل السياسي لا يواجه بالاغتيال ولكن بالقضاء . كما أن تحول كل خلاف سياسي إلي كفر وإيمان .. قد يؤدي بنا إلي الفوضى التي تحدث في تونس الآن. ومن الغريب أن الذين أفتوا في مصر بقتل قادة المعارضة أطلٌقوا فتاواهم عقب اغتيال شكري بلعيد في تونس .. وكأنهم لم يقرأوا الواقع السياسي حولنا .. ولم يتدبروا أسوأ الآثار التي يمكن أن تخلفها فتاواهم .. فالمفتي لا ينعزل عن الواقع .. ولا يعيش في فراغ من زمانه. كما أن فتاوى القتل للمعارضين تعني فيما تعنيه إلغاء المنظومة القانونية المصرية وتختصرها في فريق واحد سيكون خصمًا وحكمًا وقاضيًا ومفتيًا ومنفذًا.. وهذا إخلال لمفهوم الدولة وسيادتها وهيبتها ومؤسسيتها. يا قوم لا تشرعنوا العنف «ثوريًا أو دينيا»حتى لا يحترق الوطن.. لأن بيئة العنف موجودة فالسلاح ما أكثره في كل مكان .. ومنظومة الدولة المصرية في حالة ترد خطير.. فضلًا عن انهيار الأمن.. فلا تشعلوا عود الثقاب في الوقود.. لأنه سيحرق في البداية من يشعله.