تعذيب.. سحل .. قتل .. اعتقال.. تحرش .. اغتصاب.. وغيرها من أساليب القمع والرعب التى لجأت إليها الأنظمة لمواجهة الثورات العربية والاعتصامات الجماهيرية الكاسحة فى كل من تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، لن تكون مجرد مشاهد تتحول إلى ذكريات بعد نجاح هذه الثورات فى تغيير أنظمتها، ولكنها ستصبح وباء جماعيا تعانى منه المجتمعات العربية التى عايشت هذه الأحداث بإصابة ما بين 50 إلى 80 % من أفرادها بمرض يسمى PTSD أو ما يطلق عليه «اضطراب ما بعد الصدمة»، والذى يصعب شفاؤه، ويصل ببعض المصابين به لدرجة الخلل فى الجهاز الهرمونى والعصبى ومعاناتهم من الأمراض الخبيثة، حول هذا المرض وكيفية مواجهته، كان هذا الحوار مع د. رامز طه استشارى الطب النفسى ومؤسس حملة «انتصر على الضغوط» والمتبنى حاليا لحملة بعنوان «2012 عام المساندة والتأهيل» لمساندة وتأهيل ضحايا العنف فى الثورات العربية. إذا تحدثنا عن هذا المرض ماذا تقول عنه؟ هذا المرض معروف باسم اضطراب الضغوط أو ما بعد الصدمات، ونسبة حدوث الإصابة به بين 50 إلى 80 % عند التعرض للضغوط الشديدة، ويصاب به كل من يتعرض لصدمة عصبية تفوق طاقة تحمل الشخص العادي، ومع الوقت تظهر عليه بعض الأعراض الانشقاقية، التى تتمثل فى اضطراب شديد فى الذاكرة والوعى وتبلد الإحساس، أو ما نطلق عليه «الخدر النفسي»، ويصل الأمر أحيانا لفقدان الهوية وعدم القدرة على معرفة المحيطين بالمريض الذى قد يصاب أيضا بالشرود النفسى فلا يعرف من هو وإلى أين يذهب. كما يحدث اضطراب للجسم كله وخصوصا الدورة الدموية والدماغ والقابلية لاختلال وظائف الجهاز العصبى مع زيادة هرمونات التوتر، علاوة على زيادة أمراض السكر والضغط والصداع الذى لا يستجيب للمسكنات و حموضة المعدة والحساسية. هل هناك أعراض معينة تسهل عملية تشخيصه بدقة؟ مشكلة هذا المرض أن أعراضه تشترك مع أعراض أمراض كثيرة جدا، وهو ما يعل بعض الأطباء يعالجون أعراضه الأولية مثل القلق والأرق، بعيدا عن علاجه مما يؤدى إلى حدوث مضاعفات خطيرة، ومن أعراضه الاضطرابات النفسية والسلوكية والتى إن لم تعالج يصاب الشخص بالأمراض «النفس جسدية» خصوصا أمراض القلب والأوعية الدموية والجهاز الهضمى.. ومشكلة هذا المرض أيضا أن المريض به عادة ما يستعيد معايشة الحدث عند تذكره، مما يؤثر على الذاكرة وإصابتها بالاضطراب. لأنها تعمل لفترة طويلة على مثل هذه الذكريات الاقتحامية التى تظهر فجأة، بشكل تجعل المريض يصرخ سواء كان فى حالة نوم أم يقظة. هل يمكن أن ينتقل المرض لمن يشاهده عبر الشاشات أم يقتصر على المعايشة الفعلية؟ الإصابة به تختلف من شخص لآخر حسب بنيانه وتوازنه النفسي، وعليه فيمن الممكن إصابة المشاهد عبر الشاشات أو أى تقنية تنقل الصورة ولكن بدرجة أخف، ولكن الكارثة فى من كان منهم قد تعرض من قبل لصدمة شديدة مثل التعرض لخسائر بالغة أو فقدان شخص عزيز أو فشل فى العاطفة والحياة الأسرية، يمكن أن يصاب بما يسمى بمرض اضطراب التأقلم أو التكيف الذى يصاب فيه الإنسان بنوبات من القلق والاكتئاب أو اضطراب فى السلوك، أو أى مظاهر تؤدى إلى الخلل فى القدرة على التكيف، وقد يصل الأمر به لفقد توازنه النفسى والاجتماعي. وماذا عن العلاج؟ هناك عدة أساليب لعلاج هذا المرض بداية من العلاج النفسى التدعيمى والمساندة الاجتماعية والأسرية، بجانب الإرشاد النفسى واللجوء لأساليب خفض الحساسية للمواقف الصادمة، علاوة على العلاج النفسى الجمعى والفردى والمعرفي، كما نلجأ كذلك للعلاج الدوائى وخصوصا الأدوية الحديثة التى تعالج الأعراض الاكتئابية والقلق والأرق، وهناك أيضا العلاج الاجتماعى وإبعاده عن كل ما يذكره بالصدمة السابقة. لماذا تنادى بجعل هذا العام لمساندة وتأهيل ضحايا العنف فى الثورات العربية؟ لأنه لو لم نفعل ذلك الآن سنكون مهددين بوباء يدمر صحة جيل كامل فى المجتمعات العربية الخمسة، خصوصا أن هذا المرض لا ينتبه له الكثيرون، فخبرتنا به قليلة برغم أننا حاليا نعيش فى الموجة السادسة للمرض، فقد كان أول ظهوره فى الحرب الأهلية الأمريكية، وقد عرف بمتلازمة قلب الجندي، حيث كانت أعراضه تتمثل فى اضطرابات القلب والدورة الدموية، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى، وعرف فيها بمرض الشل شوك أى صدمة الارتجاف، وظهرت الموجة الثالثة لهذا المرض اللعين فى الحرب العالمية الثانية، وشهدت حرب فيتنام الموجة الرابعة وفيها أطلق عليه اسم الاضطراب التابع لصدمة أو حادثة، وسجلت الإحصائيات وقتها إصابة 30 % ممن عايشوا هذه الأحداث بالأمراض النازفة للجهاز العصبى والهرموني، وحدثت الموجة الخامسة مع غزو الكويت والتى شهدت لأول مرة حالات كثيرة من هذا المرض، بل سجلت الكويت وقتها ظواهر غريبة عليها مثل زيادة حالات الطلاق وانتشار العنف وخصوصا بين الشباب والمراهقين. هل أجريت أبحاث ودراسات على بلدان الثورة العربية لنقف على ماهية ما ستتعرض له؟ لم تجر حتى الآن دراسات على هذه البلدان العربية لكى نتعرف على الفروق الإكلينيكية بينها، وكيف ستكون الصورة فيها الآن وبعد سنوات، ولكن المؤكد أنه ستظهر حالات بهذا الطيف الواسع من الاضطرابات الواسعة فى سوريا واليمن باعتبارهما من أكثر بلدان الربيع العربى تعرضا للعنف والقمع والتعذيب ثم ليبيا ومن بعدها تونس ومصر، لذلك علينا أن نسارع بإقامة مراكز متخصصة لبحث هذه الظاهرة والقيام بعمليات المساندة والتأهيل.