عندما كنا أطفالاً نمارس فريضة الصيام، كانت لدينا عقيدة، بأن فلسفة الصيام كفريضة تنحصر فى وجوب مشاركة الفقراء إحساسهم بالجوع، كونهم فى الأغلب لا يجدون إلى أطايب الطعام سبيلاً. ولكن دعونا اليوم ندلف بعقولنا إلى فلسفة ورؤية - قد تكون جديدة - لهذه الفريضة المهمة و المحببة لقلب كل مؤمن. إذا ما تساءلنا عن أكثر حالات الإنسان طُهراً فى الجسد والروح، فستكون الإجابة بسهولة أنها عند مولده، أى فى الساعات الأولى التالية لمولد الإنسان، حيث يكون جسده خالياً من أى طعام وكذلك تكون روحه فى حالة سامية من النقاء والطُهر، فعقل الوليد الصغير يكون خالياً تماماً من أى فكر ومشاعره لم تتلوث بعد بأيٍ من الرغبات أو الشهوات. فما الطفل الوليد عندها إلا قطعة من لحم نقى غض و عقل طاهر. هذه الحالة الوجدانية للبشر هى أسمى وأرقى وأطهر ما يمكن أن يكون عليه الإنسان.
والأمر بالصيام ما هو إلا فرض من الله على عباده أن يتطهروا فتقترب أبدانهم وأرواحهم قدر الإمكان لتلك الحالة السامية من الطُهر والنقاء التى كانوا عليها عند مولدهم. فالصيام فى آخر الأمر هو رجوع بالجسد والروح فى ممر الزمن للخلف مقتربين بقدر المستطاع لحالةٍ فريدة من الطُهر والنقاء جسداً وروحاً.
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة : 183]. إذن فالصيام فهو تلك الفريضة التى تتعدى بجمالها و روحانياتها حدود الجوع والامتناع عن الطعام. فالصائم يخلى جوفه من كل طعامٍ ليملأ وجدانه بكل ما يقربه إلى الله عز وجلّ. فهو حالةٌ من التسامى بالروح والجسد معاً، هو حالة من النقاء الروحاني، هو حالة من الطُهر من كل دنس، هو حالة من التقرب إلى الله بروح نقية وجسد خال من الشهوات. الصيام هو التقرب إلى الله بالتقوى وبحسن الأعمال والالتزام بما شرعه الخالق جلّ فى علاه. الصيام هو حالة فريدة لتثبيت الإيمان وتعزيز للعلاقة مع الله فى شهرٍ تتلألأ فيه معطيات هذا الدين الحنيف فى عقل و وجدان المسلم.
وما رمضان إلا شهرٌ كريم يتدرب فيه المؤمن على الصبر ويقهر به شهواته ويسمو بروحه تقرباً لله عز و جل. وفى الحديث القدسي:«كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به». فجزاء الصوم وثوابه محفوظ عند الله ولا يختصمك فيه الغرماء يوم القيامة ولا يؤخذ من ثوابه لغيرك و إن كان غريمك.
والمثابرة على العبادة وفعل الخيرات والامتناع عن شهوات الطعام والجسد والإكثار من العبادات ما هو إلا تدريب على جهاد النفس.
ولسنا فى حاجة لأن نستزيد وضوحا فى كون الصيام هو دعوة للعفة. فهو عفة عن زلات اللسان والسيء من الكلام وإرهاق النفس بالآثام. الصيام هو المتعة بسكينة الروح وهدوء النفس لترقد المشاعر والأحاسيس فى وادٍ من الإيمان والرحمة.
وكما تصح الروح فى منهج الصيام كذلك يصح الجسد. فشهر رمضان هو فترة مثالية لتخلص الجسد من السموم إن اتبعت سنة النبى عند الإفطار من الاعتدال وعدم الإسراف فى الطعام والشراب. وهى فرصة لكى ترتاح منظومات الجسد وتستعيد رونق أدائها و تجدد الحيوية والنشاط.
الصيام هو قوة بلا إنفاق وهو قوة مصحوبة باللين، حيث تسمو الأخلاق ويتلاشى الكِبْر ويتسع التواضع وتشيع الرحمة ومكارم الأخلاق.
أما شهر الصيام فله المقام الكبير فقد أُنزلت الكتب الإلهية فيه، فقد رُويَ من حديث واثلة بن الأسقع ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :"أُنزلت صحف إبراهيم - عليه السلام - فى أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأُنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان".
مُباركٌ على المؤمن من رأى فى الصيام ما يجب أن يرى وأخذ على نفسه وجوب الطُهر جسداً وروحاً تقرباً إلى الله عز وجل، فكان له شهر رمضان خيراً وثواباً عظيما.